الأزمات الاقتصادية بالكيان حين تولد أزمات للمشروع الصهيوني

يجري الحديث عن الخسائر الاقتصادية للكيان الصهيوني، ومدى تأثيرها على آلة الحرب الإسرائيلية، وعلى استمرار جرائم الاحتلال في قطاع غزة. لكن تأثير الاقتصاد يتعدى الحرب إلى الديمغرافيا والهجرة، فـ”إسرائيل” بالنسبة لقطاع واسع من الصهاينة هي مشروع استثماري. ويكفي النظر إلى الارتباط التاريخي بين الهجرة اليهودية إلى فلسطين والعوامل الاقتصادية لإدراك هذه الحقيقة. ولا يمكن نفي الأسباب السياسية والأيديولوجية والنفسية، وتداخلها أحياناً مع طلب الرخاء المعيشي، لكن كثيراً ما لعب الاقتصاد دوراً حاسماً في الهجرة.
بعد الهجرات الصهيونية الأولى وبلوغ عدد اليهود في فلسطين 85 ألفاً عام 1913، أدى ارتفاع الأسعار خلال الحرب العالمية الأولى، وضعف التبرعات المالية القادمة من يهود الولايات المتحدة، إلى هجرات يهودية من فلسطين، حتى انخفض عدد اليهود هناك إلى 55 ألفاً عام 1918. ثم ازداد عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين بين عامي 1920-1929 لأسباب سياسية واقتصادية عديدة، كان من بينها تحديد الولايات المتحدة كوتا عددية للمهاجرين، أي إن اليهود اعتبروا فلسطين خياراً ثانياً، بينما كانت الولايات المتحدة الخيار الأول، نظراً لوضعها الاقتصادي. كما أن بولندا حاولت أن تقلل من عدد اليهود العاملين في بعض المجالات الاقتصادية مما أدى إلى هجرة عدد كبير منهم.
أما في مطلع الثلاثينيات فكانت هجرة يهود رومانيا بكثافة نتيجة الأزمة الاقتصادية التي عمّت تلك الدولة. وكذلك استمرت هجرة يهود بولندة لأسباب اقتصادية. واللافت أنه حتى وبعد الهولوكوست ظلت الولايات المتحدة الخيار الأول لليهود كمكان للهجرة لعوامل اقتصادية، فعملت الحركة الصهيونية على إقناع الولايات المتحدة وكندا برفض اللاجئين اليهود، وقد نجحت في تحقيق الهدف مؤقتاً.
وبعد عام 1948 شهد الكيان الصهيوني تدفقاً كبيراً للمهاجرين اليهود لأسباب عديدة ومتنوعة، لكن مع الأزمة الاقتصادية خلال أعوام 1952-1954 وارتفاع البطالة، بدأت تتراجع الهجرة اليهودية بشكل كبير. ورغم أن الدعاية الصهيونية كانت في أوجها إلا أنها فشلت في الحفاظ على الوتيرة نفسها من الهجرة. فمثلاً عام 1952 كان المهاجرون القادمون 11326 يهودياً، بينما وصل عدد اليهود المغادرين إلى 12500 مهاجر. ومع تحسن الحالة الاقتصادية عام 1955 عاد زخم الهجرة نسبياً. لكن رغم ذلك، وما بين عام 1955 و 1960 فضّل حوالي 57 ألف يهودي مغادرة فلسطين إلى الولايات المتحدة طمعاً في ظروف أفضل للعيش والعمل.
ونتيجة البطالة التي بدأت بالارتفاع عام 1966، لم يفد إلى فلسطين في العام التالي سوى 14327 مهاجراً يهودياً، بينما غادرها 10529 يهودياً. وعادت الهجرة إلى الارتفاع بعد عدوان حزيران نتيجة تحسن الوضع الاقتصادي بسبب حركة بيع سندات “إسرائيل” في الولايات المتحدة، وفرض الاحتلال منتجاته في الضفة وغزة.
وكان واضحاً أن هجرة مليون شخص من الاتحاد السوفياتي إلى الكيان الصهيوني عام 1989 والأعوام التي تلته، كانت لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، وهرباً من الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت ذلك البلد. خاصة أن جزءاً كبيراً من المهاجرين لم يكونوا يهوداً، وأكثر من نصف مليون يهودي بالفعل اختاروا الهجرة للولايات المتحدة وألمانيا لأسباب اقتصادية خالصة.
قصارى القول إن ملايين اليهود والإسرائيليين طالموا نظروا للهجرة إلى الكيان الصهيوني كمشروع اقتصادي، لا فكرة وطن. لذلك فإن الأزمة الاقتصادية الحالية، أو أية أزمة اقتصادية في المستقبل تصيب الكيان، سيعتبرها العديد من مستوطني الكيان فشلاً لمشروعهم الاقتصادي، ودافعاً للتفكير في جدوى وجودهم في الكيان، وبالتالي تحوّل الأزمة، في حال استفحالها، من أزمة اقتصادية إلى أزمة للمشروع الصهيوني نفسه.

 

المحتوى ذو الصلة