لن تكون مبالغة لو قلتُ: إنّني بتُّ أعرف الاحتلال الذي في فلسطين مع هذه الحرب أكثر من أيّ وقت مضى، وذلك بالرغم من كوني أعيش في بيت ملاصق لمعسكر “عوفر” أحد أشهر معسكراته في فلسطين حيث فيه سجن “عوفر” الذي اقتادوني إليه مشيًا سنة 2004، وقريتي محاصرة من ثلاثة اتجاهات، على شكل حذوة حصان؛ فقد تُرِكَت مفتوحة من جهة الشمال للاتصال برام الله، بينما أُغلِقت شرقًا وغربًا وجنوبًا؛ بالجدار الفاصل والطريق الالتفافي، وغير بعيد عنها مستوطنة “جفعات زئيف” ومستوطنة “عطاروت”.
عشتُ الانتفاضة الأولى طفلاً بتفاصيلها كلّها، وكلما دخلتُ مع والدتي مدينة رام الله، امتلأت بالإحساس بثقل الاحتلال، وقد صارت رام الله مدينة من الرصاص الحيّ والمطاطي وهواؤها كتلة من الغاز الخانق، ونحن نحتمي بأيّ متجر قريب نبحث عن البصل للتخفيف من حدّة الغاز.
كان الاحتلالُ قريبًا، خانقًا، يجثم على الصدر والسمع والبصر ويملأ الوعي بحضوره الثقيل. مرّة بعد صلاة العشاء كنتُ في دكّان في القرية؛ وإذا بالقوّات الخاصّة تقتحم القرية وتطلق النار على الشبّان الملثّمين الذين كانوا يكتبون الشعارات على الجدران في واحد من طقوس تلك الانتفاضة المعروفة، أصيب شابّ منهم برصاصة حيّة في فخذه، وأغلقنا باب الدكّان علينا نحبس أنفاسنا إلى حين انصراف قوّات الاحتلال. كان الموت برصاصة طائشة احتمالاً قائمًا في يوميّاتنا دائمًا.
اعتقلتُ في الخامسة عشرة من عمري لأوّل مرّة، ثمّ اعتقلتُ في السابعة عشرة وحَرَمني الاعتقال من إنهاء الثانوية العامّة في المدرسة مع زملائي، ثمّ اعتقلتُ بعد ذلك مرّات كثيرة أثناء دراستي الجامعية التي امتدت في سنوات الانتفاضة الثانية كلّها، حتى أنهيتها بعد أحد عشر عامًا، وفي أثناء تلك الدراسة عشتُ مُطارَدًا للاحتلال مرتين، كدتُ أقتل في إحداهما أكثر من مرّة، والضيق، ضيق المدينة والشوارع والحواري هو الحقيقة المفروضة على لحظاتي كلما انتهى إلى سمعي خبر اقتحامه المدينة. الاحتلال هو أكثر ما يفرض عليك الإحساس بضيق العالم كلّه.
لا يمكنك أن تتحرك في الضفّة الغربية، دون أن تجده يملأ صدرك بالسمّ، فعلى طول حركتك حاجز أو بوابة حديدية أو برج أو مكعبات إسمنتية ضخمة أو جدار مستوطنة أو سلك معسكر أو طريق التفافي.. حضوره مغروز في الوعي كإبر في العيون وسكاكين في الصدر، وفي ثانية يمكنه أن يشلّ الضفة الغربية، يغلق الطرق كلها، والقرية التي تحتاج دقيقة للوصول إليها يلزمك ساعات بعد إغلاقه مدخلها؛ للوصول إليها، وربما يضطر العائد إلى بلده النوم خارجها ليلة، وفي بعض الظروف يحجزه حصار هذه القرية أو تلك المدينة أيامًا خارجها، وفي الأحوال كلّها لا بد من المرور على حاجز حين الانتقال من مدينة إلى أخرى، ولا تدري في الأثناء ما الذي يمكن أن يعنيه هذا المرور آخر الأمر؛ وصولاً بلا ضرر، أم تأخيرًا يعطّل غرضك، أم تفتيشًا واحتجازًا، أم ضربًا وإهانة، أم اعتقالاً، أم قتلاً.
أعيش في واحدة من قرى شماليّ غرب القدس، نتبع القدس، لكنّنا لا نحمل الهوية المقدسية، فلا يمكننا دخول القدس، ولا الصلاة في المسجد الأقصى، ولذلك فحياتنا مرتبطة بمدينة رام الله. حينما أنتقل من شماليّ غرب القدس إلى قراها الشرقية وحالها كحال قرانا، أُراقِب على طول يميني الحواجز التي يدخل منها المستوطنون، وحملة الهويات الزرقاء للمدينة، وأنا ممنوع من ذلك تمامًا.
إذن قدر صار معروفًا أنّ حركتي في الضفة محكومة بحواجز الاحتلال، أمّا الوصول إلى غزّة فهو أمرٌ مستحيل، وأمّا الدخول للقدس أو للأراضي المحتلّة عام 1948 فيحتاج تصريحًا خاصًّا لا يعطى لي أبدًا بسبب سوابقي الاعتقالية في سجون الاحتلال، ويبقى أن يُعلم أنّني ممنوع من السفر، وهو ما يعني أنّ وصف “السجن الكبير” يصدق على الضفّة الغربية كما يصدق على غزّة، وإن كان لكلّ منطقة ظروفها الخاصة، ليس فقط بين هذه الأقاليم الكبرى، بل إنّ بعض القرى والمناطق داخل الضفّة الغربية لها ظروف استعمارية مختلفة عن محيطها كلّه، بما يَصعب فهمه دون معايشته، وذلك مما يَستحق أن يُروى ويُشرح منفصلاً، ليعلم أخونا العربيّ ماذا يعني الاحتلال الإسرائيلي، والذي يعني فيما يعنيه الإحساس الثقيل بالقيد الوقت كلّه حتى وأنت جالس في بيتك بين أهلك، ويدك في ظاهر الأمر طليقة، ولكنك في حقيقة الأمر سجين مشلول الحركة وقلبك مُثقل بذلك كلّه.
على أية حال، هذه صورة من صور الاحتلال، وفكرة عن معناه وحضوره طوال العقود التي مضت من عمري، ومع ذلك فإنّ شعوري بثقله، واختناقي به، في هذه الحرب، أكثر شِدّة من أي وقت مضى من عمري، وهو ما يعني أنّ حقيقته قاسية إلى درجة تمنحه قدرة فائقة على التجدد في البطش، والتنويع في خنق الفلسطيني وحصاره وملاحقته وسلبه أدنى شعور بالأمان والاستقرار.
كيف جددت هذه الحرب الوعي بالاحتلال بما لم يُسبَق في وعي الفلسطيني؟! هذا موضوع قادم.