منذ اليوم الأوّل لعمليّة “طوفان الأقصى”، وهناك حروبٌ متعدّدة، وغير بعيدة عن العمليات العسكريّة في غزة والضفة الغربية. هذه الحروب تتعلّق بالسرديات وشيطنة الخَصم. وفي ظلّ هذا كانت هناك حرب معلنة بين من جعل الصراع جزءًا من صراع عالمي سواء تعلق ذلك بالأفكار أو بالجغرافيا، وآخر يرى أن ما يحدث ثنائي محلي يتعلّق بالاحتلال وسياساته غير الإنسانية.
تسعى هذه المقالة إلى تفكيك الخطابَين الرئيسيين اللذين تم تقديم الصراع في سياقهما: خطاب التدويل، وخطاب الثنائيّة، والذي يركز على مقاومة المحتل لمن يحتلّ أرضه، ويفرض إرادته على الشعب المحتلّ.
الحرب على غزة بين خطابَين
بدأت دولة الاحتلال خطابًا يركّز على تقديم ما حصل لها على أنه حربٌ عالمية واستمرارٌ للحرب على الإرهاب، التي استمرَّت لعقود وَفق المنظور الغربي.
هذا الخطاب تمّ بناؤُه عبر الكلمات والمصطلحات والمواد الدعائية المفبركة. فاستحضار هجمات سبتمبر في العام 2001، وكذلك استخدام الدولة الإسلامية والمسماة “داعش”، كان ذلك ركنًا أساسيًا في خطاب التدويل هذا.
فمواجهة تلك التيارات كان في إطار حرب عالميّة قادتها الولايات المتحدة. لقد تمّت صياغة خطاب عالمية الحرب على غزّة ضمن ستة سياقات:
السياق الأوّل: لقد حرصت حكومة الاحتلال – من اللحظات الأولى لهجوم السابع من أكتوبر- على تقديم سردية أنّ ما جرى في ذلك اليوم لم يكن يستهدف دولة الاحتلال، بل كل العالم الغربي.
وقد اعتمدت دولة الاحتلال على التركيز على أن السابع من أكتوبر باعتبار أنه بداية التاريخ لحربها على الشعب الفلسطيني وحركاته المقاومة، متجاهلةً بإرادة وتصميم أن الاحتلال عمره أكثر من 75 سنة، وأن غزة محتلة لأكثر من 56 سنة.
السياق الثاني: تمّ استحضار- من المصطلحات والأفكار- ما يمكن أن يخيف هذا الغرب، ويدفعه لتأييد دولة الاحتلال، فاستحضار أحداث سبتمبر 2001، وما جرى فيها وما بعدها، ثم استحضار الحرب على الإرهاب وما يراه الغرب من امتداداته متمثلًا في الدولة الإسلامية (داعش).
ولعل استحضار (داعش) كان في سياق سرديّة التضليل الإسرائيلي حول قتل المدنيين، وقطع رؤوس الأطفال وحرقهم، إلى غير ذلك من تلك القصص التي روّج لها الغرب ولغيرها من قبل، حول ما تقوم به جماعات تنتسب إلى الإسلام.
وقد تبيّن أنَّ دولة الاحتلال كانت تقدم موادَّ فيلمية لضيوفها أو تشاركها مع الذين لم يزوروا دولة الاحتلال في الأسبوع الأول بعد 7 أكتوبر. لقد كان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو حريصًا على ألا يخوض معركته مع حركة حماس منفردًا، فالغطاءُ الدولي كان بالنسبة له طوال أكثر من 16 عامًا ضرورة يحرص عليه في مواجهته مع إيران، ومع المقاومة.
السياق الثالث: تمثل في الحديث عن أن ما جرى في السابع من أكتوبر جرى بتخطيط ودعم دولة، والإشارة هنا إلى إيران، واستحضار إيران تكمن أهميته في استجلاب الدعم الغربي الذي يحمل أفكارًا مفرطة في السلبية حول إيران، ودورها في الشرق الأوسط.
من هنا كان إرسال حاملات الطائرات، مثل جيرالد فورد وغيرها، في رسالة واضحة تعكس التعاطي مع سردية دولة الاحتلال. جرى الترويج لكل جزئيات هاتَين المرحلتَين خلال العشرة أيام التي تلت الثامن من أكتوبر، والتي تلت قرار رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إعلانَ حالة الحرب ضد غزة، بموجب المادة (40) من القانون الأساسيّ للحكومة.
السياق الرابع: يتمثّل في اعتبار إعلان جماعة الحوثيين في اليمن عن نيّتهم استهدافَ السفن المتوجهة إلى دولة الاحتلال أو القادمة منها، وذلك حتى يتمّ السماح بدخول الاحتياجات الأساسية من غذاء وماء ودواء إلى غزة.
لقد اعتبرت حكومة دولة الاحتلال – ومعها واشنطن- أنّ هذا تهديدٌ للملاحة البحرية، وبدأت المساعي لتأسيس تحالف دولي لمواجهة الحوثيين، وهذا تَكرارٌ لما تمّ عمله في الفترة 2000-2017؛ لمواجهة القراصنة في بحر العرب.
ورغم الجهود التي تمّ بذلها والإعلان الأميركي عن تأسيس تحالف “حراس الازدهار”، فإن دولًا أوروبيّة – مثل إسبانيا، وفرنسا- لم تنضم، وبقي مصير التحالف مجهولًا.
السياق الخامس: تمثل هذا السياق في تهديد دولة الاحتلال في العودة إلى سياسة الاغتيالات لقادة حماس في الخارج، رُغم ما يمثّله ذلك من تجاوز على سيادة تلك الدول. وقد أرسلت تركيا- على سبيل المثال- رسالةً واضحة إلى دولة الاحتلال بأنها ستردّ بقوة إذا ما تمّ استهداف أي من قيادات حماس على الأراضي التركية.
لم تتوقف دولة الاحتلال في مساعيها إلى تدويل حربها على غزة، فقامت في 2 يناير 2024 باغتيال صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، ورئيس المكتب السياسي للحركة في الضفة الغربية مع اثنَين من قادة الحركة في الضاحية الجنوبية في بيروت، حيث المعقل الأساسي لحزب الله.
مثل هذا الاغتيال جاء بعد تطوّرين هامين واجها حكومة الاحتلال: الأول؛ هو سحب الولايات المتحدة حاملة الطائرات جيرالد فورد من البحر المتوسط، والآخر قرار المحكمة العليا الإسرائيلية إلغاءَ قانون المعقولية الذي يمنح الحكومة قوّةً على السلطة القضائية.
إن استهداف الشيخ العاروري محاولةٌ من رئيس وزراء حكومة الاحتلال للاستمرار في تدويل حربه على غزة من جهة، ومن جهة أخرى مقاومة آثار قرار المحكمة العليا، والذي من شأنه أن يُضعف الائتلاف الحكومي اليميني الذي يقوده.
السياق السادس: امتدّت آثار خطاب التدويل إلى داخل الدول التي تدعم دولة الاحتلال، إذ إنه أصبح يتحكم في مشهد السياسة الداخلية في تلك الدول، وأصبح التضييق على الحريات لمجرد انتقاد دولة الاحتلال أو المساندين لها، كما جرى تتبع كل أنواع الشعارات التي يستخدمها المتظاهرون المعترضون على حرب دولة الاحتلال على غزة.
إن حرب التخوين والاتهامات والاستهداف – التي طالت شخصيات وأكاديميين في مجتمعات غربية من قبيل الولايات المتحدة في سياق معاداة السامية لمجرد انتقاد دولة الاحتلال- ليست إلا انعكاسًا لمحاولة تدويل الصراع، الذي يحاول رئيس وزراء دولة الاحتلال فرضه منذ السابع من أكتوبر.
مقابل كل هذا، بقي تعريف الطرف الآخر للمواجهة- وهي هنا حركة المقاومة الإسلامية حماس، وبقية حركات المقاومة- منحصرًا في أن الحرب على غزة هي حرب حكومة الاحتلال على شعب محتل يقاوم ويرفض الاحتلال. وأنه لا دعمَ عمليًا يُقدم لهم، وأن الحرب عليهم هي عالمية، رأسُ حربتها دولة الاحتلال، ومعها دول فاعلة، على رأسها الولايات المتحدة الأميركيّة.
اغتيال صالح العاروري والمرحلة الجديدة
ومع استمرار الحرب على غزة في ظلال السياقات السابقة متأثرة بها ومؤثرة فيها، لكن ما هو مؤكد أن الحرب على غزة تدخل فصلًا جديدًا بعد الثاني من يناير 2024، واستهداف الشيخ صالح العاروري، مرحلةٌ تدفع إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة:
الأول: سيناريو التصعيد وتوسع ردّ حزب الله، بحيث تزداد عمليات الحزب وتصبح أكثر تركيزًا واستمرارًا، وهذا يجعل الصراع يتحول إلى صراع إقليمي بمستويات تعقيد عالية. هذا السيناريو يكاد يكون المفضل من قِبل رئيس حكومة دولة الاحتلال في ظل الوضع الداخلي الذي يواجهه.
الثاني: سيناريو التصعيد المؤجل، بحيث يذهب إلى مستوى من الرد يتم اختياره في أوقات معينة وَفق خيارات الطرف المهاجم، وهو خيار استنزاف أمني وسياسي.
الثالث: سيناريو الدفع بقوة نحو وقف إطلاق نار، وهذا يتطلب حراكًا إسرائيليًا داخليًا يحدّ من قدرات بنيامين نتنياهو، وكذلك ضغوطًا أميركية تدعم هذا الحراك الإسرائيلي.