خطة نتنياهو لليوم التالي في غزّة.. وصفة لحرب إقليمية شرسة

[[{“value”:”

كشف بنيامين نتنياهو عن خُطته لليوم التالي بعد الحرب على غزة، أثناء انعقاد باريس (23 فبراير/ شباط) لبحث وقف إطلاق النار المتعثّر مساره منذ أسابيع، وبعد أربعة أشهر من السؤال الأميركي عن خطة إسرائيل بشأن مستقبل قطاع غزة.

وهو السؤال ذاته الذي كرّره العديد من المسؤولين الإسرائيليين، وفي مقدّمتهم رئيس الأركان هرتسي هاليفي الذي اعتبر عدم الإفصاح عن أهداف واقعية للتنفيذ، سيُفقد الجيش قدرته على إنجاز المهمّة، فهو يرى أن الجيش يُقاتل وينجز تكتيكيًا، ولكنه غير قادر على توظيف إنجازاته إستراتيجيًا في غياب الرؤية السياسية لليوم التالي.

معالم خطة بنيامين نتنياهو
جاءت الخطة التي عرضها بنيامين نتنياهو على أعضاء حكومته، بالعديد من التفاصيل الخاصّة بمستقبل قطاع غزة، ومن أهم معالمها:

المجال الأمني؛ تحتفظ إسرائيل بحرّية العمل العسكريّ والأمني في جميع مناطق القطاع دون قيد زمني، مع إقامتها حزامًا أمنيًا داخل قطاع غزة، على طول حدوده مع فلسطين المحتلة عام 1948، وتتعاون مع مصر وبمساعدة واشنطن لسيطرتها على حزام أمني على الحدود المشتركة بين مصر والقطاع (محور فيلادلفيا/ صلاح الدين)؛ لمنع التهريب عبر الحدود، بما في ذلك معبر رفح.
علاوة على ذلك، تقوم إسرائيل بنزع السلاح من قطاع غزة، وتجرّده من أي قدرة عسكرية، باستثناء ما هو مطلوب لحفظ الأمن العام.

الشأن المدني؛ ترتكز إسرائيل في إدارتها للشؤون المدنية والنظام العام في قطاع غزة، على “أشخاص محليّين”، شرط ألا يكونوا مرتبطين بدول أو كيانات تدعم الإرهاب أو يتلقوا أموالًا منها. مع إعداد خطّة شاملة لمكافحة التطرف؛ في المؤسسات الدينية، والتعليمية، والرعاية الاجتماعية بمساعدة “دول عربية” لها خبرة في هذا المجال.
وفي هذا السياق تتحدث الخطة؛ عن إغلاق وكالة “الأونروا”، واستبدالها بوكالات معنية بالمساعدات الإنسانية.

أما بالنسبة لإعادة إعمار قطاع غزة، فتنصّ الخطة على “تمويل وإدارة الإعمار من قبل دول فقط مقبولة إسرائيليًا”، على ألا يبدأ الإعمار إلا بعد “الانتهاء من نزع السلاح واجتثاث التطرف”.

الشأن السياسي؛ ترفض إسرائيل الإملاءات الدولية بشأن التسوية الدائمة مع الفلسطينيين: (الدولة الفلسطينية والقانون الدولي والقرارات الدولية ذات الصلة)، وتؤكّد الخُطة أن التسوية السياسية مع الفلسطينيين تتم فقط من خلال “المفاوضات المباشرة دون شروط مسبقة”، مع التأكيد على رفض إسرائيل أيَّ اعتراف أحادي الجانب (من أية دولة أو منظمة إقليمية أو دولية) بالدولة الفلسطينية.
تلك المعالم الأساسية الواردة في خطة نتنياهو لا يتم الشروع بها أو الانتقال إليها إلا بعد تحقيق أهداف العدوان الجاري على غزة، والتي أكّدها نتنياهو مرارًا منذ إعلان الحرب على قطاع غزة، وهي: تدمير القدرات العسكرية والبنية التحتية السلطوية لحركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، وإطلاق كافة الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، ومنع أي تهديد مستقبلي لإسرائيل من القطاع.

قراءة سياسية في مفردات الخطة
بالوقوف على تلك التفاصيل وغيرها من المواقف المعلنة والسياسات الجارية على أرض الواقع في الضفة والقطاع والقدس، يمكن ملاحظة ما يلي:

أولًا: الخطة ترفض وجود مرجعية فلسطينية بما فيها السلطة الفلسطينية القائمة بموجب اتفاقيات أوسلو، كما ترفض وجود أيّ أطر تمثيلية مدنية أو سياسية منبثقة عن الشعب الفلسطيني، وكل ما هو مسموح به روابط مدنية مبنية على أشخاص يختارهم ويعيّنهم الاحتلال وفق معاييره؛ بهدف تغييب الهُوية الوطنية والتمهيد لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية كليًّا، بعد السيطرة عليه وإعادة احتلاله.

ثانيًا: إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية كمخرج سياسي لوقف/ إنهاء الصراع، وإلغاء حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بموجب القوانين الدولية، وهذا يتّسق مع ما يسمى: “قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل”، الصادر عن الكنيست في العام 2018، والذي يشير إلى وجود شعب واحد على أرض فلسطين التاريخية، وهو الشعب اليهودي فقط، وهو من يحق له تقرير المصير.

وهذا ما أكّدته أيضًا تصريحات نتنياهو والعديد من وزرائه خلال الأسابيع والأيام الأخيرة، برفض وجود دولة فلسطينية، ليس في غزة فقط، وإنما في الضفة أيضًا باستخدام نتنياهو صيغةَ: “إسرائيل لن تتخلى عن سيطرتها الأمنية الكاملة على الأراضي الواقعة غرب الأردن (الضفة الغربية).

ثالثًا: المفاوضات السياسية؛ ستكون بين طرفين ودون شروط مسبقة؛ بمعنى حذف مرجعيات القانون الدولي والقرارات الدولية ذات الصلة، والمبادرة العربية للسلام، أو أي معايير وقواعد ناظمة للمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين؛ أيْ أن إسرائيل المحتلة تريد أن تستفرد بالفلسطينيين لتُملي عليهم، وترسم لهم ملامح الحل النهائي وفق منطق القوة المنتصرة الفارضة لإرادتها على المهزوم (سياسة الأمر الواقع)، وهذا يلتقي مع فكرة إنهاء الهُوية الوطنية للفلسطينيين كشعب، ومنحهم حكمًا ذاتيًا في الضفة والقطاع كأقلية تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة.

رابعًا: التمهيد لإلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين المكفول بالقرار 194، عبر إلغاء وكالة الأونروا القائمة بموجب القرار الأممي رقْم 302، واستبدالها بوكالات دولية أخرى، وليس من المستبعد أن تكون إحدى تلك الوكالات هي المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، المعنية بحماية اللاجئين والنازحين قسرًا، والأشخاص عديمي الجنسية، للعمل على إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين الذين بلغ عددهم 7 ملايين (50% من الشعب الفلسطيني)، في إطار تصفية القضية الفلسطينية.

خامسًا: إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني، ليكون محبًّا للاحتلال وقابلًا للعبودية في دولة إسرائيل اليهودية “الديمقراطية”، وإقناع الفلسطينيين وتربية أطفالهم على كراهية المقاومة والحرية التي تعدّ ترفًا مضرًا بالمجتمع والصحة العامة، وعليهم أن يحذروا؛ فإن لم يُقنِعوا أنفسهم بذلك فلا يوجد إعمار ولا إعادة إعمار في قطاع غزة (حسب شروط خطة نتنياهو)، وسيبقون مشرّدين بائسين بلا مأوى.

فرص نجاح الخطة وتداعياتها
تلك الخطة مَبنية على فرضية حاسمة، وهي الانتصار الساحق لإسرائيل المحتلة في العدوان الجاري على قطاع غزة، وقدرتها على تحقيق كامل أهدافها المعلنة، وهذا أمر مشكوك فيه إلى حد بعيد، فما زالت المقاومة فاعلةً ونشطةً، كما أنَّ مستوى أدائها وتحكّمها في المشهد عالٍ ومؤثر.

وهو ما دفع العديد من الضبّاط الأميركيين والإسرائيليين إلى التشكيك في إمكانية إحراز النصر الحاسم/المطلق في غزة، وفي مقدمتهم عضو وزارة الحرب الإسرائيلية غادي آيزنكوت (رئيس أركان سابق لجيش الاحتلال الإسرائيلي)، الذي شكّك في رسالته إلى أعضاء الحكومة قبل أيام، بإمكانية “النصر المطلق” وفق اصطلاح نتنياهو.

وهو أيضًا ما أشارت إليه صحيفة نيويورك تايمز (23 فبراير/شباط)، نقلًا عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين بأنه ما زال لدى حماس في شمال قطاع غزة نحو 5 آلاف مقاتل، وبأن أغلبية أنفاقها سليمة.

الأمر الآخر، إلغاء الخطّة لفكرة الدولة الفلسطينية وحق تقرير المصير، يضع إسرائيل في مواجهة الأصدقاء قبل الأعداء. فالأوروبيون والأميركيون رغم انحيازهم، لن يستطيعوا الترويج أو الدفاع عن هذه الخطة؛ لأنها وصفة لصبّ الزيت على النار في المنطقة، بإغلاقها الأفق السياسي للحل، ما يعني أن البديل هو التصعيد في فلسطين وعموم المنطقة.

علاوة على أنها ستغلق الباب أمام واشنطن للترويج لفكرة التطبيع في ظل غياب فكرة الدولة الفلسطينية التي أصبحت استحقاقًا ملحًّا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول (طوفان الأقصى)، وهو ما أكدته الرياض في مواقفها الأخيرة؛ أنه لا تطبيع بدون أفق سياسي لدولة فلسطينية، وهذا ما سيُحرج الدول العربية، وخاصة المطبّعة منها أمام شعوبها المقبلة على شهر رمضان، الذي قد يتحوّل إلى مناسبة رافعة لمستوى الاحتجاج ضد المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، إن بقي الاحتلال على تعنّته وغطرسته وعدوانه على قطاع غزة.

أيضًا، تنكُّر الاحتلال لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وسعيه لإلغاء الأطر السياسية والمدنية الوطنية الممثّلة للشعب الفلسطيني، سيكون ذلك مدعاة لوَحدة الفلسطينيين في الضفة والقطاع والخارج على اختلاف مشاربهم الفكرية وانتماءاتهم الحزبية، في مواجهة الاحتلال الساعي لإلغاء وتصفية القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، وذلك بكافة الوسائل وفي مقدمتها القوّة الخشنة.

وفي هذا السياق، يبرز السؤال بشأن فرضية انفلات الوضع الأمني من يد الاحتلال في عموم الضفة الغربية، لا سيّما إذا شعر الضباط والجنود من منتسبي الأجهزة الأمنية (60 ألف عنصر مسلح)، بانسداد الأفق السياسي واندثار مسار التسوية، وبأن البديل القادم هو الاستيطان والتهجير من الضفة، كما يروّج له اليمين الصهيوني المتطرف بقيادة وزير الأمن القومي بن غفير، ووزير المالية سموتريتش، فهل سيقف أولئك متفرّجين، أو حراسًا للاستيطان والمستوطنين؟

خلاصة القول؛ خطة بنيامين نتنياهو، عكست في مفرداتها جوهر الاحتلال وحقيقة سياساته الاستعمارية الإمبريالية العنصرية الفاشية، الذي استطاع طوال عقود مضت تجميلها بمساحيق السياسة والعلاقات العامة، إلى أن جاءت ضربة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فكشفت سوءة الاحتلال وغطرسته واستعلاءه على البشرية والقيم الإنسانية.

ما أدى لسقوط سردية الاحتلال واتساع نطاق عزلته أمام العالم، لا سيّما بعد مطالبة أغلب الدول بوقف إطلاق النار والعدوان على غزة، وفتح الممرات الإنسانية فورًا بالتصويت في مجلس الأمن الدولي لـ 3 مرات، استخدمت فيها واشنطن حق النقض الفيتو.

وكان آخرها الاعتراض على مشروع القرار الجزائري الأسبوع الماضي (20 فبراير/ شباط)، مع الإشارة إلى تمكّن الجمعية العامة للأمم المتحدة (13 ديسمبر /كانون الأول 2023)، من إصدار قرار بالدعوة لوقف إطلاق النار، وفتح ممرات إنسانية بموافقة 153 دولة، ومعارضة 10 دول فقط.

هذا في وقتٍ بدأت تشعر فيه الدول الأوروبية والصديقة لإسرائيل، بالحرج – أمام الرأي العام المحلي والدولي الساخط على الاحتلال وداعميه في هذه الحرب العدوانية على الشعب الفلسطيني المطالب بالحرية – كما تجدُ صعوبة في الدفاع عن إسرائيل وانتهاكاتها الفاضحة لحقوق الإنسان، ما جعل العديد منها يأخذ مسافة من الاحتلال باستنكار جرائمه ضد الأطفال والمدنيين العزّل في قطاع غزة (100 ألف بين شهيد وجريح حتى اللحظة)، والتي أفضت لمثول إسرائيل المحتلة أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية.

حالة التعالي والشوفينية والغطرسة لدى قادة الاحتلال الإسرائيلي- وعدم اكتراثهم بتوجّهات المؤسسات الدولية بما فيها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، وضعف الموقف الأوروبي وانحياز واشنطن التي ما زالت ترى في القضاء على حركة حماس والمقاومة الفلسطينية هدفًا لا بد من تحقيقه لإزالة العائق أمام إعادة رسمها مستقبلَ القضية الفلسطينية والشرق الأوسط بقيادة إسرائيل القوية – حَمَلت بنيامين نتنياهو على إشهار خطته لليوم التالي في غزة، والتعبير عن نظرته للمستقبل بالتأصيل لفكرة الحسم في الصراع على قاعدة نكون أو لا نكون، ما يأخذ المنطقة عَنوة إلى احتمالات أكثر تعقيدًا وصعوبة من الواقع الحالي، الذي قد يتطور إلى حرب إقليمية يصعب التنبّؤ بمآلاتها.

وذلك بعكس ما تشتهيه واشنطن وتخطط له إسرائيل، بعد أن فرضت القضية الفلسطينية نفسها بقوّة على جدول أعمال الإقليم والمؤسسات الدولية، وأصبحت قضية ذات أبعاد وتأثيرات جيوسياسية خطرة في البحرَين: الأحمر والمتوسط، وعموم الشرق الأوسط.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة