[[{“value”:”
يقدّم الأميركيون، سواء أكانوا في مواقع رسمية، أم في مؤسسات بحثية وأكاديمية، أنفسهم كخبراء استثنائيين وأوصياء قادرين على وضع الخطط والصيغ والمقاربات الأنسب للأزمات الدولية.
يحددون بكل فوقية لكل طرف ما ينبغي عليه فعله، وما يمكنه وما لا يمكنه القيام به، ويقرّرون نيابة عن الشعوب ما هو الأنسب لها، وما الذي يضمن لها مستقبلًا آمنًا ومزدهرًا من وجهة النظر الأميركية،.
وهم أيضًا يحددون من هي الجهات والقوى والأفكار (الصالحة)، ومن هي الجهات (الشريرة) التي يجب استئصالها، ويُملون على الجميع مفاهيمهم وتعريفاتهم الخاصة بالاستقرار والرخاء والازدهار والإرهاب والعنف والقانون …إلخ.
ومن لا يستجيب من الشعوب لهذه الوصفة الأميركية الجاهزة له، فإنه سيواجه العواقب الوخيمة، فقد سمحوا لأنفسهم وبكل عجرفة وغطرسة استباحة دماء الشعوب والأبرياء وتدمير بلدانهم وهدم دولهم؛ ليفرضوا عليهم ما يعتقدونه، وما تجارب العراق وأفغانستان وسوريا واليمن وليبيا عنا ببعيدة.
يحاول الأميركيون أن يتعاملوا مع ما يحدث اليوم في الأزمة الفلسطينية وحرب الإبادة الجماعية في غزة بذات العقلية والمنهجية، فلا يتوقفون عن تقديم المقترحات والرؤى السياسية للخروج من الأزمة، وما بات يعرف باليوم التالي للحرب.
فمنذ الأيام الأولى للمعركة بدؤُوا بالترويج لفكرة تشكيل قوات دولية للسيطرة على غزة وإدارتها لفترة انتقالية، ثم طرحوا تشكيل قوة عربية لذات الغرض، وعندما فشلوا في حشد التأييد لهذه الأفكار، قدموا رؤية أخرى قائمة على تجديد السلطة الفلسطينية؛ لتصبح مؤهلة “وفق الرؤية الأميركية – الإسرائيلية” لإدارة غزة، ثم بدؤُوا بالتعاون مع بعض الدول والقوى بإنشاء الميناء البحري في شمال القطاع.
كل ذلك دون أن يفكّر الأميركي مجرد تفكير، فيما يمكن أن يقبله الفلسطيني أو ما يناسبه ويحقق مصالحه الوطنية، بل إنهم لم يشاوروا أو يناقشوا أيًا من هذه الأفكار مع أي من الأطراف المعنية قبل طرحها، وكثيرًا ما عرّفوا عنها من خلال المتحدث باسم وزارة الخارجية، أو البيت الأبيض، أو بعض وسائل الإعلام ومراكز الدراسات.
مما لا شك فيه أنّ مما ساهم في تفرد الولايات المتحدة في طرح الحلول والرؤى والمقاربات، هو العجز العربي والإسلامي والدولي، وإحجام أي منهم عن طرح أية صيغة سياسية قد تضع حدًا لهذه الحرب، وتفتح للفلسطينيين أفقًا سياسيًا مناسبًا. فتُرك الباب مفتوحًا على مصراعيه للأفكار والرؤى الأميركية التي لا يوجد فيها سوى ثابت واحد لا غير، ألا وهو مصلحة إسرائيل، وطموحاتها السياسية، وضمان مستقبلها.
مع رؤية دينيس روس
تجلّت هذه العقلية الأميركية في مقالة للسياسي والخبير الأميركي المعروف دينيس روس، ففي مقالته التي تحمل عنوان: “إسرائيل بحاجة إلى إستراتيجية جديدة” المنشورة على موقع “إندبندنت العربية” بتاريخ 16 مارس/آذار 2024، وبحكم خبرته الطويلة في الملف الفلسطيني الذي عمل فيه لسنوات طويلة، ومع أكثر من إدارة أميركية، يقدّم وصفته أو رؤيته للتعامل مع حرب الإبادة في غزة، فيحدد أهداف كل طرف من هذه الحرب، ويحدد لكل طرف ما ينبغي عليه وما يستطيع فعله.
المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر يمكنهم المساهمة فقط بما يعتقد روس أن لديها خبرة فيه أو جديرة به، فيقول في مقالته: ” لكنّ المشكلة هي أن 70 في المئة من جميع المباني في الشمال إما دمرت أو أصبحت غير صالحة للسكن. ولهذا السبب فالخطوة الأولى في الإستراتيجية يجب أن تكون إنشاء آلية لمعالجة الوضع الإنساني، بقيادة الولايات المتحدة، وبالشراكة مع السعودية ودول الخليج. ويجب تقديم مساعدة فورية فيما يتعلق بالسكن المؤقت والمتنقل.
من المؤكّد أنّ السعوديين، نظرًا لخبرتهم في التعامل مع الأعداد الكبيرة جدًا من الحجاج الذين يأتون إلى المملكة وتوفير المأوى لهم في كثير من الأحيان، يمكن أن يسهموا بالتأكيد في هذا الجهد. ويمكن للإماراتيين والقطريين أيضًا تمويل الكرفانات والمقطورات والمنازل الجاهزة مسبقة الصنع”.
ثم يحاول أن يجد لهم مخرجًا لتجاوز مواقفهم السياسية المعلنة حول الحرب والإعمار، فيكتب: “صحيح أن دول الخليج قالت إنها لن تقدم مساعدات إعادة الإعمار إلا إذا كانت مرتبطة بخطة لحل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. على رغم ذلك، فهي تسهم بالفعل في المساعدات الإنسانية، وفيما يتعلق بمسألة تلبية الحاجات الإنسانية، لا شيء أهم من توفير الغذاء والمأوى. ومن المؤكد أن هذه الدول تستطيع أن تسوّغ الإجراءات التي تتخذها باعتبارها ضرورية لتخفيف معاناة الفلسطينيين”.
هذا الموقف يشير إلى أنّ الأميركي لا يأخذ مواقف الدول العربية، وبالذات السياسية منها، على محمل الجِد، فيعتقد أن الدول العربية يمكن أن تعمل خلافًا لمواقفها المعلنة، وذات الأهمية السياسية الكبيرة، ويحدد المشكلة فقط في كيفية تمرير أو تسويغ تجاوز مواقفها السياسية أمام الرأي العام، ولا يبدو أنه يقيم وزنًا لطبيعة وحقيقة وأهمية الموقف السياسي ذاته، والمنطلقات والخلفيات الوطنية والقومية والسياسية التي تقف وراء هذه المواقف.
لاحقًا وفي ذات المقالة ينصح دينيس روس إسرائيل بأن تستفيد في تعاملها مع حركة حماس كأيديولوجيا من التجربة الأميركية في التعامل مع داعش في سوريا والعراق، معتبرًا أن الولايات المتحدة هي من نجحت في القضاء على داعش، متناسيًا أن من حارب وواجه وهزم داعش هم أبناء المنطقة العربية والإسلامية، وأن داعش كانت حالة غريبة عن المنطقة وثقافتها ودين شعوبها، وأنها نشأت أو صنعت ونمت وانتشرت برعاية أميركية، وفق اعتراف هيلاري كلينتون العلني، وأن غالبية كوادرها تم تجميعهم من العالم، وبالذات من الدول الغربية برعاية استخبارات بلاده.
بينما حركة حماس هي حركة مقاومة وطنية فلسطينية محلية، قياداتها وكوادرها وشبابها ومقاوموها هم من أبناء مدن وقرى ومخيمات فلسطين، وهم موزّعون على كل شرائح وفئات الشعب الفلسطيني الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لا يوجد بينهم أو منهم غرباء ولا نكرات ولا مجهولو الهوية. لكنها الفوقية والعجرفة التي تعمي صاحبها فيرسم صورة للآخر كما يرغب ويحلو له هو، وليس كما تقدّمه الحقائق.
استنساخ التجارب الفاشلة
من وحي التجربة الأميركية الفاشلة في أفغانستان، يقدم دينيس روس للفلسطينيين تصورًا لليوم التالي للحرب، ولم يمنعه فشل بلاده في فرض قيادة سياسية على الشعب الأفغاني، عندما اعتقدوا بإمكانية فرض نظام كرزاي الموالي لهم، وفرض إرادتهم على إرادة الشعب هناك، فيقترح على الفلسطينيين أن يكرروا ذات التجربة، إذ يقول: ” وإلى ذلك، يتطلب الأمر إنشاء بديل عن “حماس” قادر على تولّي الإدارة اليومية وضمان تطبيق القانون والنظام اللازمين لإعادة الإعمار. وبعبارة أخرى، فإن هدف إسرائيل، والولايات المتحدة، المنشود يجب أن يكون نزع السلاح من غزة بشكل دائم، ومنع استخدام القطاع مرة أخرى كمنصة لشنّ هجمات ضد إسرائيل. وسيكون هذا مفيدًا بالنسبة إلى الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، إذ لن تضطر إسرائيل إلى عزل غزة أو مهاجمتها مجددًا”.
ثم يقدّم رؤية محددة للإدارة المستقبلية لغزة: ” يتعين على دول الخليج، إضافة إلى مصر والاتحاد الأوروبي والأردن والولايات المتحدة، أن تتعاون مع النظام الإداري (البنية البيروقراطية) في غزة الذي أنشأته السلطة الفلسطينية للمرة الأولى في عام 1994 واستمر في العمل تحت قيادة “حماس”، وقد لعب هذا النظام دورًا إداريًا، وليس سياسيًا، في إدارة الحاجات اليومية.
كذلك، ينبغي إشراك رجال الأعمال الفلسطينيين من داخل غزة وخارجها في إدارة القطاع، ويجب أن تتعاون المنظمات الإنسانية معهم؛ لتوزيع المساعدات وتحفيز بدايات النشاط التجاري”.
يعلن روس بشكل واضح أن خطته لا تشتمل على أهداف أو رؤية سياسية للفلسطينيين، وكالعادة ينسب غياب ذلك للفلسطينيين أنفسهم وليس للتطرف الإسرائيلي أو اليمين الفاشي فيه، ولا للانحياز والنفاق الأميركي، فيقول: “ومادام أن 91 في المئة من الفلسطينيين يعتقدون أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يجب أن يستقيل، و80 في المئة مقتنعون بأن السلطة الفلسطينية فاسدة، فمن غير المجدي الحديث عن أفق سياسي أو هدف نهائي”.
ويكمل، وكأنّ الموافقة الإسرائيلية على قيام دولة فلسطينية هي منحة صهيونية تحتاج حسن سلوك عربي وفلسطيني، ويملي على العرب ما ينبغي أن تكون عليه رؤيتهم وتعاملهم مع المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، فيكتب: “وفي سبيل قبول الإسرائيليين احتمال قيام دولة فلسطينية، يجب أن يشعروا بالطمأنينة.
لذا، يمكن البدء بخطوات على الأرض تهدف إلى بناء غزة جديدة منزوعة السلاح، على أن تلعب الدول العربية دورًا نشطًا في هذه الجهود، فتساعد في دعم بديل لحكم “حماس” والحفاظ على هذا البديل. ويتعين على هذه الدول أن تكون مستعدة في مرحلة ما لإدانة ما فعلته “حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. اليوم لا يريد أي زعيم عربي أن يبدو وكأنه يدافع عن تصرفات إسرائيل في غزة، ولكن لا بد من أن يأتي وقت تصبح فيه إدانة “حماس” ممكنة، والعجز عن القيام بذلك يبعث برسالة إلى الإسرائيليين، مفادها أن العرب في نهاية المطاف ليسوا على استعداد لنزع المشروعية عن “حماس” أو الجماعات المشابهة لها”.
ملحوظات على التوجهات الأميركية
وبالنظر للتجارب الأميركية في أكثر من دولة في منطقتنا وبمتابعة ما يصدر عن الأميركيين منذ بدء الحرب يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
لم تتمكن، أو لم ترغب، الولايات المتحدة في نشر الاستقرار والأمن أو مساعدة الشعوب في إنجاز حقوقها في أي من الدول التي احتلتها أو تدخلت بشكل فاعل في شؤونها وأزماتها. والتجارب العراقية والأفغانية والسورية واليمينة تؤكد ذلك.
تتمكن الولايات المتحدة غالبًا من نشر الفوضى والخراب والدمار أينما حلّت، لكنها لا تساهم في البناء والاستقرار والتنمية في تلك الدول.
لا تقيم الولايات المتحدة وزنًا لإرادة الشعوب أو توجهاتها وطموحاتها وتفرض ما تعتقد أنه يلبي مصالحها ومصالح إسرائيل.
لا يوجد صديق دائم للولايات المتحدة، حتى ممن يتعاونون معها، وهي تبدل أدواتها وشركاءها وفقًا لما تقتضيه مصلحتها، ويمكن أن تتخلى عن أي طرف محلي إذا ما اقتضت الضرورة ذلك.
تتبنى الولايات المتحدة الرؤية والأهداف الإسرائيلية دائمًا وبمعزل عن الحكومة التي تحكم تل أبيب، وإن اختلفت مع حكومة ما فخلافها يكون مع الحكومة فقط وليس مع إسرائيل ككيان.
ترفض الولايات المتحدة فكرة فرض أي حلول أو حتى إجراءات على إسرائيل، وتحاول فقط دفعها لتبني بعض المواقف بالإغراء أو التشجيع، فإسرائيل ابنة الولايات المتحدة المدللة.
لا يوجد أي دليل على اهتمام أميركي حقيقي بحقوق الشعوب في المنطقة، وبالذات الشعب الفلسطيني، وتصر على رفض وضع مقاومتهم ونضالهم في سياق التحرر.
لا تقيم الولايات المتحدة وزنًا للقيم الإنسانية عندما يتعلق الأمر بشعوب المنطقة، وهي تستخدم منظومة القيم العالمية فقط للتضليل وللأغراض السياسية والإعلام، وقد انتهكت أبسط حقوق الإنسان في الدول التي تدخلت فيها.
وعليه ونظرًا لأن الولايات المتحدة تكاد تحتكر الملف الفلسطيني وهي الفاعل الأهم والأقدر فيما يتعلق بالحرب الدائرة في غزة، فإن التعامل العربي والفلسطيني ينبغي أن يراعي ما سبق، ولا بدّ من التصرف بمسؤولية عالية، بالذات من الفلسطينيين، حتى لا تتمكن الولايات المتحدة من صياغة المشهد كما اعتادت أن تفعله في دول أخرى، فنجد أنفسنا أمام مشهد فوضى وانقسام وضياع للبوصلة قد يمتد لسنوات طوال.
إن التدقيق في التجارب الأميركية في عدد من الدول يقود إلى أن ما تستطيع أن تنتجه العبقرية الأميركية وعجرفتها السياسية، هو فقط الفوضى والخراب وعدم الاستقرار والانقسامات وتدمير حاضر ومستقبل الشعوب لعقود طويلة.
إن الركون إلى الحلول والمقاربات الأميركية في الموضوع الفلسطيني لن يقود إلا إلى الفوضى والخراب والضياع، ولن يجني الفلسطيني سوى استمرار الاحتلال والانقسام وتدمير مستقبل أجيال فلسطينية لعقود.
ورغم أن الفلسطيني قد خبرَ جيدًا الدور الأميركي خلال حقبة أوسلو الممتدة لما يزيد على 30 عامًا فإن الكثير من المؤشرات تشي بأن القيادة السياسية الرسمية الفلسطينية، قيادة السلطة و “م ت ف”، في طريقها لتكرار التجربة والانخراط في لعبة أميركية عبثية جديدة، وهو ما ينبغي التحذير منه والانتباه له.
إن عظم التضحيات التي قدمت وما زالت تقدم من الشعب الفلسطيني تقتضي الوقوف جيدًا أمام الذات والتصرف بمسؤولية وتفويت الفرصة على الولايات المتحدة وإسرائيل.
“}]]