ليست حرباً على “أذرع إيران” في المنطقة

[[{“value”:”

رغم مرور ما يقرب من عام على الحرب التي يشنها الكيان الصهيوني على قطاع غزّة، والتي اتسع نطاقها منذ أيام، ليشمل لبنان أيضاً، وربما تكون في طريقها إلى التحوّل إلى حرب إقليمية كبرى، يوجد فريق في مختلف الأقطار العربية يرى أن هذه الحرب لا تخصّ الشعب الفلسطيني ولا علاقة لها بالقضية الفلسطينية، وإنما هي حربٌ على أذرع إيران في المنطقة، أي على حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين وحزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن وعدة فصائل جهادية في العراق. ولأن هذا الفريق يعتقد أن منطقة الشرق الأوسط ستكون أفضل حالاً وأكثر استقراراً إذا تمكّن الكيان الصهيوني من تخليص المنطقة من هذه الأذرع التي تطلق على نفسها اسم “محور المقاومة”، فمن الطبيعي أن يصرّ على تحميلها كامل المسؤولية، ليس عن بدء الحرب فحسب، وإنما أيضاً عن كل ما لحق بالمنطقة من دمار وخراب، بل وربما عما سيلحق بها من كوارث، إلى أن تضع الحرب أوزارها نهائياً.

لا أميل إلى تخوين من أختلف معهم في الرأي، مهما بلغ حجم التباين مع أفكارهم ومواقفهم، وأفترض دوماً توفر حسن النية لديهم، غير أن ذهاب بعضهم إلى حد التبنّي الكامل للأطروحات الدعائية التي يروّجها الكيان الصهيوني، خصوصا في زمن الحرب، لا يمكن أن يعد ما يردّده من مقولاتٍ على هذا الصعيد خلافا في وجهات النظر، أو نابعا من حسن النية.

صحيحٌ أن الاختلاف السياسي والأيديولوجي مع النظام الإيراني الحالي، أو مع أيٍّ من مكوّنات محور المقاومة، أمرٌ واردٌ ومشروع تماماً، غير أن القول إن “حماس” هي التي تسبّبت في إشعال هذه الحرب، بإقدامها على شن عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، أو أن حزب الله هو من تسبّب في توسيع نطاقها وامتدادها إلى لبنان، حين بادر بفتح جبهة إسناد عسكري للقطاع استجابة لتعليمات أو أوامر تلقاها من إيران، وهو قول ينطوي على كثير من التجنّي، ويتناقض مع أبسط الحقائق البديهية، بل ويساهم أيضا في بثّ الفرقة والبلبلة في أوساط جماهير عربية وإسلامية يفترض أن تشكّل البيئة الحاضنة للقضية الفلسطينية والمدافعة عنها والمحافظة عليها، وهو هدفٌ يسعى الكيان الصهيوني إلى تحقيقه بمختلف الوسائل، المشروعة وغير المشروعة.

لم يبدأ صراع الشعب الفلسطيني مع الكيان الصهيوني مع “طوفان الأقصى”، ولكنه بدأ مع الاحتلال الصهيوني الأرض الفلسطينية، ما يعني أنه ما زال في حالة حربٍ دائمة مع هذا الكيان، وسوف يظلّ كذلك إلى أن يزول الاحتلال وتقام الدولة الفلسطينية المستقلة. صحيحٌ أن منظمّة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، أبرمت مع الكيان الصهيوني عام 1993 اتفاقية لتسوية القضية الفلسطينية، إلا أن الأرض الفلسطينية ما زالت محتلة، ولم تقم فوقها دولة فلسطينية مستقلة، رغم مرور أكثر من 31 عاما على هذه الاتفاقية.

وعندما وصلت حكومة الكيان الحالية إلى السلطة في نهاية عام 2022، أعلنت أنها لن توافق مطلقاً على قيام دولة فلسطينية مستقلة على أي جزءٍ من أرض فلسطين، وستضمّ أجزاء من الضفة الغربية، وستتوسّع في بناء المستوطنات إلى أقصى درجة ممكنة، بل وشرعت في اتخاذ إجراءات عملية تهدف إلى تهويد المسجد الأقصى، تمهيدا لهدمه وإقامة “الهيكل” مكانه. ولم يكن أمام الفلسطينيين، في سياق كهذا، سوى الاختيار بين واحد من بديلين: الاستسلام التام وقبول العيش مواطنين من الدرجة الثانية في كيان يحكمه نظام فصل عنصري (أبارتهايد)، أو مواصلة النضال بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك حمل السلاح، وهو الخيار الذي تبنّته فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة على اختلاف مشاربها السياسية والفكرية.

ولذلك فعندما تمكّنت حركة حماس من إطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، فإن أكثر ما أثار دهشة المراقبين المحايدين لم يكن يتعلق بمدى مشروعية ما قام به فصيل صغير من فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، وإنما بكيف استطاع هذا الفصيل المحاصر برّاً وبحراً وجواً أن يقوم بما قام به فعلا. ولأن حجم ما تحقّق من إنجاز استراتيجي في هذا اليوم الخالد من تاريخ النضال الفلسطيني كان أكبر مما توقّعه أحد، فقد كان من الطبيعي أن يلقي بتأثيراته على معطيات القوى وموازينها في مجمل المنطقة والعالم، وأن يدفع كل مكونات محور المقاومة إلى إعادة حساباتها ووضعها أمام مسؤولياتها التاريخية التي تفرض عليها التحرّك إلى الأمام وتقديم الدعم والمساندة.

حين قرّر حزب الله، اعتباراً من اليوم التالي للطوفان مباشرة، فتح جبهة الشمال لتقديم مساندة عسكرية محسوبة لفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، لم يكن هذا القرار استجابة لأوامر تلقّاها الحزب من إيران، كما يدّعي الفريق المعادي لإيران في المنطقة، والذي تحرّكه دوماً مشاعر واعتبارات طائفية، لكن الحزب كان مدفوعاً في ذلك، من وجهة نظر كاتب هذه السطور على الأقل، بحساباتٍ عقلانية بحتة نابعة من رؤيته وتجربته الخاصة والطويلة في التعامل مع الكيان الصهيوني.

ولا شكّ أنه أدرك على الفور أن ردّ فعل الحكومة الإسرائيلية على ما جرى سيكون هائلاً وغير منضبط، وأن جناحها الأكثر تطرّفا سيحاول انتهاز الفرصة المتاحة لتمرير أجندته الخاصة التي تشمل ضم الأراضي والتوسّع الاستيطاني، وتصفية الحسابات مع كل القوى التي يعتبرها معادية، ومن ثم لن يكتفي هذا الجناح بمحاولة استئصال فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وإنما سيحاول كسر محور المقاومة كله، بمجرّد أن يفرغ من أداء المهمّة التي حدّدها لنفسه في قطاع غزّة. لذا لا أبالغ إن قلت إن قرار حزب الله بفتح جبهة الشمال كان مدفوعاً، بالإضافة إلى اعتقاده التام بعدالة القضية الفلسطينية، كان عملاً دفاعياً استباقياً للمحافظة ليس على سلامة الحزب فحسب، وإنما أيضاً عن أمن الدولة اللبنانية أيضاً.

ومن هنا تأكيد نصر الله أنه لن يسمح مطلقا بهزيمة “حماس”، انطلاقا من قناعته بأنه إذا تمكّن الكيان من تحقيق هذا الهدف سوف يستدير لتحطيم القدرات العسكرية للحزب، وإعادة احتلال أجزاء من لبنان، ما زال اليمين الإسرائيلي يحلم بضمها إلى الكيان، ويعتقد أن الفرصة ربما تكون قد حانت لتحويل الحلم إلى حقيقة. وفي تقديري، يثبت المسار الذي سلكته جولة الصراع الحالية، منذ اندلاع الطوفان، أن نظرة الحزب كانت ثاقبة وحساباته كانت دقيقة، وهي التي ساعدت باقي مكوّنات محور المقاومة على الدخول على خط المواجهة المسلحة مع الكيان، ما أدّى إلى تحوّل هذه المواجهة إلى حرب استنزاف حقيقية للكيان.

يتّسق قرار نتنياهو توسيع نطاق المواحهة العسكرية المحتدمة حاليا، ونقل مركز ثقلها من قطاع غزّة إلى الجبهة اللبنانية، تماما مع ما سبق من تحليل، ومن ثم لا ينبغي أن يثير الاستغراب، فلدى الكيان الصهيوني ثأر قديم مع حزب الله، منذ نجاح الأخير في تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، وأيضا بسبب فشل الكيان في تصفية الحزب، وفي تحطيم قدراته العسكرية في المواجهة الكبرى بينهما عام 2006.

وسواء ساند الحزب قطاع غزّة عسكرياً عقب “طوفان الأقصى” أو لم يفعل، من المؤكد أن آلة الحرب الجهنمية للكيان كانت ستستدير إليه، وتصفّي حساباتها معه، بمجرد أن تفرغ من مهمتها في هزيمة “حماس” واستئصالها من معادلة الصراع، لكن صمود الشعب الفلسطيني وفصائل مقاومته في غزّة، من ناحية، ودخول محور المقاومة، وفي مقدّمته حزب الله، طرفا في المواجهة العسكرية، من ناحية أخرى، ساهما في تحويل الحرب على غزّة إلى عملية استنزاف فعلي للكيان الذي لم يكن أمامه سوى الاختيار بين بديلين: القبول بوقف دائم لإطلاق النار بشروط “حماس”، ما يعني اعترافه بالهزيمة، أو الانقضاض على حزب الله وتوسيع نطاق الحرب، حتى ولو خاطر بتحويلها إلى حرب إقليمية شاملة. واختار نتنياهو البديل الثاني.

استطاع جيش الكيان، بالتعاون مع الجيش الأميركي الموجود بكثافة في المنطقة، توجيه ضربات موجعة إلى حزب الله في الأيام القليلة الماضية، وتمكّن من إلحاق خسائر هائلة بالمدنيين الذين يشكّلون بيئته الحاضنة، لكن الحزب صمد أمام هذه الضربات، واستطاع أن يستعيد زمام القيادة والسيطرة بسرعة، وها هو يخوض حرباً مفتوحة مع الكيان بعقل بارد، واستناداً إلى حسابات موضوعية وواقعية. ومن السابق لأوانه استباق الأمور والتنبؤ بالوجهة التي ستّتخذها الأحداث في الأيام والأسابيع المقبلة.

ومع ذلك، هناك شيء مؤكّد، أن مستقبل القضية الفلسطينية بات مرتبطاً عضوياً بمستقبل محور المقاومة في المنطقة، وبالتالي، إما أن ينتصرا معا، وهو ما نأمله، أو أن ينهزما معا، لا قدر الله، وهو ما لا نتمنّى حدوثه أبداً. وقد أدّت التطوّرات التي شهدتها المنطقة في العام المنصرم إلى حدوث عملية فرز، ترتّب عليها ظهور معسكريْن واضحين تماما في المنطقة، يناصر أحدُهما القضية الفلسطينية، ويقف معها قلبا وقالبا، وبالتالي يتمنّى أن يخرج الكيان الصهيوني مهزوماً في جولة الصراع الحالية، وهو ما لا يمكن أن يتحقّق إلا بانتصار محور المقاومة ككل، والثاني يتمنّى أن يخرج محور المقاومة مهزوماً فيها، بدعوى أنه يشكّل أذرعا لإيران، وأن انتصاره سيمهد الطريق لهيمنة إيران على المنطقة.

وفي تقديري، لا يمكن أن يكون المعسكر الأخير مناصراً للقضية الفلسطينية في أي حال. لذا يمكن القول، بكل اطمئنان، إن الحرب التي يشنّها الكيان الصهيوني حالياً لا تهدف إلى تصفية أذرع إيران، وإنما تستهدف القضية الفلسطينية أولاً وقبل كل شيء. كل ما هناك أن الكيان يعتقد أنه يستحيل إنجاز هذه المهمة إلا بتصفية محور المقاومة!

“}]] 

المحتوى ذو الصلة