مؤرخ إسرائيلي يكشف “الأسس الأخلاقية” لكيان الاحتلال المساعدة بارتكابه “الإبادة الجماعية”

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

يرى المؤرخ والأكاديمي الإسرائيلي إيلان بابيه أن نزع الطابع التاريخي عن سياق الحرب على غزة يساعد إسرائيل على مواصلة سياسات الإبادة الجماعية في القطاع المحاصر.

وينتمي بابيه -مدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في جامعة إكستر- لما يسمى “مدرسة المؤرخين الإسرائيليين الجدد” إلى جانب مفكرين مثل بني موريس الذي تناول “سياسة الترنسفير” (التهجير الجماعي)، وزئيف ستيرنهيل الذي يناقش دعاوى إسرائيل الليبيرالية والديمقراطية، وآفي شلايم الذي يؤرخ للاستيطان والمقاومة قبل النكبة 1948، وتوم سيغيف الذي درس عنصرية وبشاعة المستوطنين الإسرائيليين الأوائل، وغيرهم.

وكتب بابيه في مقاله للجزيرة أن إسرائيل تطالب بتوسيع تعريف معاداة السامية ليشمل انتقاد الدولة الإسرائيلية والتشكيك في الأساس الأخلاقي للصهيونية، ويضيف الأكاديمي -الذي ترك التدريس في جامعة حيفا عام 2006 بسبب آرائه- أن نزع الطابع التاريخي عن أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي يساعد إسرائيل والحكومات في الغرب في تنفيذ السياسات التي تجنبتها في الماضي إما لاعتبارات أخلاقية أو تكتيكية أو إستراتيجية.

وهكذا، فإن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول تستخدمه إسرائيل كذريعة لمواصلة سياسات الإبادة الجماعية في قطاع غزة، كما يقول الكاتب، وهي أيضًا ذريعة للولايات المتحدة لمحاولة إعادة تأكيد وجودها في الشرق الأوسط، وهي أيضا ذريعة لبعض الدول الأوروبية لانتهاك الحريات الديمقراطية والحد منها باسم “الحرب على الإرهاب” الجديدة.

لكن هناك العديد من السياقات التاريخية لما يجري الآن في إسرائيل وفلسطين التي لا يمكن تجاهلها، بحسب بابيه، إذ يعود السياق التاريخي الأوسع إلى منتصف القرن الـ19، عندما حولت “المسيحية الإنجيلية” في الغرب فكرة “عودة اليهود” إلى “ضرورة دينية ألفية ودعت إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين كجزء من الخطوات، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى قيامة الأموات، وعودة المسيح، ونهاية الزمان”.

ويعتبر بابيه أن “اللاهوت” (أو استخدام الدين سياسيا) أصبح سياسة متبعة منذ نهاية القرن الـ19 وفي السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى لسببين:

أولا، لصالح البريطانيين الذين رغبوا في تفكيك الإمبراطورية العثمانية ودمج أجزاء منها في الإمبراطورية البريطانية.

ثانيا، لاقت هذه الفكرة صدى لدى الطبقة الأرستقراطية البريطانية، من اليهود والمسيحيين على حد سواء، الذين أصبحوا مفتونين بفكرة الصهيونية باعتبارها الدواء الشافي لمشكلة معاداة السامية في أوروبا الوسطى والشرقية، التي أنتجت موجة غير مرحب بها من الهجرة اليهودية إلى أوروبا وبريطانيا.

وعندما اتحدت هاتان المصلحتان معا، دفعتا الحكومة البريطانية إلى إصدار وعد بلفور الشهير “سيئ السمعة” في عام 1917، كما يقول صاحب كتاب “عشر خرافات عن إسرائيل” (2017).
اليهودية كقومية

كان المفكرون والناشطون اليهود الذين أعادوا تعريف اليهودية كقومية يأملون أن يؤدي هذا التعريف إلى حماية المجتمعات اليهودية من الخطر الوجودي في أوروبا من خلال التركيز على فلسطين باعتبارها المساحة المطلوبة “لولادة الأمة اليهودية من جديد”.

وفي هذه العملية، تحول المشروع الصهيوني الثقافي والفكري إلى مشروع “استعماري استيطاني يهدف إلى تهويد فلسطين التاريخية”، متجاهلا حقيقة أنها كانت مأهولة بالسكان الأصليين، كما يقول صاحب كتاب “الفلسطينيون المنسيون: تاريخ الفلسطينيين في إسرائيل” (جامعة ييل 2011).

وفي المقابل، أنتج المجتمع الفلسطيني، الذي كان مجتمعا رعويًا تمامًا في ذلك الوقت وفي مرحلته الأولى من التحديث وبناء الهوية الوطنية، حركته المناهضة للاستعمار، وكان أول تحرك كبير لها ضد المشروع الاستعماري الصهيوني هو انتفاضة البراق عام 1929، ولم تتوقف منذ ذلك الحين.

سياق تاريخي آخر ذو صلة بالأزمة الحالية هو التطهير العرقي الذي حدث في فلسطين عام 1948، إذ شمل الطرد القسري للفلسطينيين إلى قطاع غزة من القرى التي بنيت على أنقاضها بعض المستوطنات الإسرائيلية (وهي نفس المناطق التي جرى مهاجمتها في 7 أكتوبر/تشرين الأول) وكان هؤلاء الفلسطينيون المقتلعون من أرضهم جزءا من 750 ألف فلسطيني فقدوا منازلهم وأصبحوا لاجئين.

وهناك أيضا سياق الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، فعلى مدار الخمسين عاما الماضية، فرضت قوات الاحتلال عقابًا جماعيًا مستمرًا على الفلسطينيين في هذه الأراضي، مما عرضهم للمضايقات المستمرة من قبل المستوطنين الإسرائيليين وقوات الأمن الإسرائيلية وسجن مئات الآلاف منهم، وفقا لبابيه مؤلف كتاب “بيروقراطية الشر: تاريخ الاحتلال الإسرائيلي” (أوكسفورد 2012).

ويقول الكاتب إنه منذ انتخاب الحكومة الإسرائيلية “الأصولية المسيحانية” الحالية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وصلت كل هذه “السياسات القاسية” إلى مستويات غير مسبوقة، حيث ارتفع عدد الفلسطينيين الذين قتلوا وجرحوا واعتقلوا في الضفة الغربية المحتلة بشكل كبير. علاوة على ذلك، أصبحت سياسات الحكومة الإسرائيلية تجاه الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في القدس أكثر عدوانية.

وأخيرا، هناك أيضا السياق التاريخي للحصار المستمر منذ 16 عاما على غزة، حيث ما يقرب من نصف السكان هم من الأطفال. وفي عام 2018، حذرت الأمم المتحدة بالفعل من أن قطاع غزة سيصبح مكانًا غير صالح للبشر بحلول عام 2020.

وينوه بابيه إلى أنه من المهم تذكر أن الحصار فُرض ردًا على “الانتخابات الديمقراطية التي فازت بها حماس بعد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من غزة”، والأهم من ذلك هو تذكر حقبة التسعينيات، عندما تم تطويق قطاع غزة بالأسلاك الشائكة وجرى فصله عن الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية في أعقاب اتفاقيات أوسلو.

وكانت عزلة غزة، والسياج المحيط بها، والتهويد المتزايد للضفة الغربية، بمثابة إشارة واضحة إلى أن اتفاق أوسلو (1993) في نظر الإسرائيليين كان يعني احتلالا بوسائل أخرى، وليس طريقا إلى سلام حقيقي، كما يخلص المؤرخ الإسرائيلي.

وسيطرت إسرائيل على نقاط الخروج والدخول إلى الحي اليهودي في غزة، وكانت تراقب حتى نوع الطعام الذي يدخل، وفي بعض الأحيان كانت تقتصر على عدد محدد من السعرات الحرارية. وردت حماس على هذا الحصار المنهك بإطلاق الصواريخ على المناطق المدنية في إسرائيل، بحسب الكاتب.

وزعمت الحكومة الإسرائيلية أن الدافع وراء هجمات حماس هو “الرغبة الأيديولوجية للحركة الفلسطينية في قتل اليهود، واعتبرته شكلا جديدا من أشكال النازية متجاهلة سياق النكبة والحصار اللاإنساني والهمجي المفروض على مليوني شخص والقمع الذي تعرض له الفلسطينيون في أجزاء مختلفة من فلسطين التاريخية”.

وكانت حماس، من نواحٍ عديدة، المجموعة الفلسطينية الوحيدة التي وعدت بالانتقام أو الرد على هذه السياسات. ومع ذلك، فإن الطريقة التي قررت بها الرد قد تؤدي إلى زوالها، على الأقل في قطاع غزة، وقد توفر أيضًا ذريعة لمزيد من القمع للشعب الفلسطيني، بحسب بابيه.

ويقول المؤرخ -الذي ولد في حيفا ويقيم في بريطانيا حاليا- أنه لا يمكن تبرير “وحشية الهجوم بأي شكل من الأشكال، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تفسيره ووضعه في سياقه، وبقدر ما كان الأمر مروعا، فإن الجزء السيء هو أنه لا يشكل حدثا يغير قواعد اللعبة، على الرغم من التكلفة البشرية الهائلة على كلا الجانبين” بحسب وصفه، ويتساءل: ماذا يعني هذا للمستقبل؟.

ويجيب بابيه سؤاله قائلا “ستبقى إسرائيل دولة أنشأتها حركة استعمارية استيطانية، وسيستمر ذلك العامل في حمضها النووي السياسي كمحدد لطبيعتها الأيديولوجية. وهذا يعني أنه على الرغم من تصويرها لنفسها على أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فإنها ستبقى ديمقراطية لمواطنيها اليهود فقط”.
الصراع الداخلي في إسرائيل

يقول بابيه إن الصراع داخل إسرائيل بين ما يمكن أن نسميه “دولة يهوذا” أي دولة المستوطنين التي ترغب في أن تكون إسرائيل أكثر تدينا وثيوقراطية وعنصرية، وبين “دولة تل أبيب” (الأكثر علمانية) والراغبة في الحفاظ على الوضع الراهن سوف يندلع مرة أخرى، وهناك بالفعل علامات على عودتها.

وفي حديثه السابق للجزيرة اعتبر بابيه أن هاتين الدولتين (نموذج “دولة يهوذا”، ونموذج “دولة تل أبيب”) ليستا ديمقراطيتين عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، بينما الديمقراطية الممكنة في حالة “دولة إسرائيل” تكون فقط بالنسبة لليهود وليس تجاه الفلسطينيين.

ويؤكد بابيه أن “إسرائيل ستظل دولة فصل عنصري -كما يؤكد عدد من منظمات حقوق الإنسان- مهما كانت تطورات الوضع في غزة”، بالمقابل، لن يختفي الفلسطينيون وسيواصلون نضالهم من أجل التحرر”.

ويختم أن المخرج الممكن هو تغيير النظام في إسرائيل ليوفر حقوقا متساوية للجميع من النهر إلى البحر، ويسمح بعودة اللاجئين الفلسطينيين، وإلا فإن دائرة سفك الدماء لن تنتهي.

 

المحتوى ذو الصلة