الثّمن المطلوب لإنصاف غزّة وتضحيات الشّعب الفلسطيني

[[{“value”:”

اتفاقية الإطار (ورقة باريس) المنشورة، والتي جاءت بتوافق أمريكي إسرائيلي مصري قطري في إطارها العام، وقُدّمت لحركة حماس كعرض أوّلي، لإطلاق سراح الأسرى المتبادل بين حركة حماس والمقاومة الفلسطينية من جهة والاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية مع وقف مؤقّت لإطلاق النار، تعدّ محاولة غير مكتملة في بُنيتها السياسية والحقوقية، لإخراج المشهد المعقّد من تناقضاته، لا سيّما مع إصرار حكومة الاحتلال المتطرفة ورئيسها بنيامين نتنياهو على الاستمرار في العدوان على غزة حتى النهاية للقضاء على حركة حماس، وتهجير الفلسطينيين من القطاع، وإعادة الاستيطان، ما يعني عمليا ضم الضفة والقطاع إلى الكيان المحتل، وتصفية القضية الفلسطينية.

فاتفاقية الإطار المبنية على مراحل ثلاث، وفي مدى زمني قد يستمر لعدة أشهر، تركّز على تفعيل مسار واحد رئيسي يتمثّل في إطلاق سراح كافة الأسرى الموجودين لدى حركة حماس والمقاومة الفلسطينية من مدنيين وجنود وضباط، مقابل إطلاق سراح أسرى فلسطينيين، ليس معلوما عددهم ولا معايير الإفراج عنهم، مقابل زيادة المساعدات الإغاثية والبدء بإعادة إعمار “المستشفيات” تحت إشراف الأمم المتحدة.

وبالوقوف أكثر على مفردات وأفكار الورقة يمكن تسجيل النقاط التالية:

أولا: الورقة لا تأتي على ذكر وقف العدوان الشامل والدائم، أو انسحاب جيش الاحتلال من كامل قطاع غزة، فهي تتحدث عن إعادة انتشار بخروج جيش الاحتلال من المناطق المأهولة “بكثافة”، أي إمكانية بقائه داخل قطاع غزة، والبدء بمباحثات (غير مباشرة) بشأن المتطلبات اللازمة “لإعادة الهدوء”، على أن يتم الانتهاء من المباحثات لإعادة الهدوء قبل الانتهاء من المرحلة الثالثة، وهي المرحلة التي تكون فيها المقاومة، حسب الورقة، قد أفرجت عن كافة الأسرى لديها من مدنيين وجنود وضباط، ولم يتبق إلا تبادل الجثث في ما يُسمى المرحلة الثالثة. وهذا يعني خسارة المقاومة الفلسطينية مسبقا لورقة الأسرى قبل التوصّل لما يسمى الهدوء الذي لا يعني بالضرورة وقف العدوان أو العمليات العسكرية ضد قطاع غزة، ما يمنح نتنياهو واليمن الصهيوني الديني المتطرف القدرة على المناورة وحرية الحركة بعد التخفّف من ملف الأسرى وضغط جبهتم الداخلية القلقة على مصير أبنائها لدى المقاومة الفلسطينية أو الخشية من مقتلهم بسبب قصف جيشهم العشوائي على القطاع، وهذا ما حصل فعلا بمقتل نحو 19 أسيرا لدى حركة حماس.

إن تعويل الوسطاء على فاعلية طول مدّة الهدنة المؤقتة، لتشكّل حالة ضاغطة لوقف العمليات القتالية والعدوان على غزة، مسألة ليست مضمونة وغير راجحة، لأن بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف ووزير حربه غالانت، يرون في استمرار الحرب مهربا ومخرجا لهم من المحاسبة في اليوم التالي لوقف القتال، فهم يخشون من دفع ثمن فشلهم في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وفشلهم في تحقيق أهدافهم المعلنة، وغير الواقعية في قطاع غزة، والتي كلّفت الكيان وجمهوره أثمانا بشرية ومادية باهظة.

ثانيا: تخلو البنود من الحديث عن إعادة إعمار قطاع غزة، كما لا تشير إلى عودة النازحين إلى مناطقهم ومدنهم التي نزحوا منها قسرا تحت القصف والقتل العشوائي وخاصة مدينة غزة وشمال القطاع، وتكتفي بالإشارة إلى إنشاء مراكز إيواء مؤقّتة من الخيم برعاية الامم المتحدة، و”البدء” بإعادة إعمار المستشفيات وليس المساكن المدمّرة، وهذا يشكّل بدوره وصفة لاستمرار الكارثة الإنسانية بلا أفق زمني محدّد أو معلوم.

ثالثا: لا يوجد ذكر أو إشارة لرفع الحصار عن قطاع غزة، بل الحديث عن “تكثيف” دخول المساعدات، دون تفسير واضح لمعنى تكثيف دخول المساعدات، وما المقصود بها؛ فهل يعني زيادة نسبة المساعدات التي تدخل حاليا والتي تشكّل ما نسبته 5 في المئة من احتياجات الفلسطينيين في قطاع غزة، لتصل إلى 10 في المئة أو 20 في المئة..؟ وإذا كان الأمر كذلك فهذا مؤشّر على تواصل المعاناة الإنسانية من جوع وفقر وتشرّد مستدام لسنوات طويلة تحت رحمة الاحتلال الذي يعمل على إعدام كافة مظاهر الحياة الطبيعية في قطاع غزة، فيصبح الحصار الذي مضى عليه أكثر من 17 عاما شكلا من أشكال الموت البطيء بسيف المرض والجوع والبرد.

رابعا: تخلو الاتفاقية من ذكر أية جهة سياسية أو مدنية فلسطينية يمكن أن تطلع بدورها كطرف في الاتفاقية، وتكتفي بالإشارة إلى كلمة “الأطراف” أو “الطرف”، كصيغة تشير إلى الطرف الفلسطيني أو حركة حماس دون تسميتها عند الحديث عن إطلاق سراح الأسرى الصهاينة على سبيل المثال، مقابل ذكر الكيان الإسرائيلي صراحة كطرف يسمح بكذا وكذا، وهذا فيه تجاهل وتقصّد بتغييب أي طرف فلسطيني مسؤول يمثل الفلسطينيين في هذا الاتفاق الإطاري.

خطورة هذا الاتفاق الإطاري أنه يقدّم إطلاق سراح الأسرى المتبادل على أهميته، كأولوية وعلى حساب الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني وحتى على حقوقهم الطبيعية؛ من مسكن ومأكل والحق في التعليم والصحة والعمل والحرية في الحركة دون حصار أو قيد احتلالي. وهذا خلل منهجي؛ فالشعب الفلسطيني ومقاومته عندما قامت وواجهت الاحتلال إنما لأهداف وطنية سياسية أولا، والأسرى فقدوا حريتهم لأهداف وطنية سياسية أصلا، فالمشكلة كانت ولا زالت في وجود الاحتلال وسياساته العنصرية الفاشية التي تطورت إلى حد الدعوة والعمل على إبادة الشعب الفلسطيني أو تهجيره من أرضه.

الاحتلال ونتنياهو وحكومته المتطرفة، يلعبون لعبة مزدوجة؛ فهم يحاولون أن يسوّقوا أنفهسم على أنهم معنيون بتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني مقابل صفقة أسرى متبادلة، في الوقت الذي يصرّون فيه على استمرار العدوان والإبادة الجماعية لتحقيق أهدافهم السياسية بتدمير قطاع غزة لتهجير ما أمكن من الفلسطينيين وإعادة الاستيطان وضم الضفة وغزة إلى الكيان المحتل، ما يعني أن الاتفاق الإطاري على شكله الأصلي/الباريسي هو إطار يجنح لصالح الاحتلال، وهذا ما يُفسر تمهّل حركة حماس بالرد على الوسطاء، وشروعها بمشاورات وطنية موسّعة مع قوى المقاومة، مع تأكيدها المتكرر على حرصها على التمسّك بحقوق ومصالح الشعب الفلسطيني السياسية والإنسانية، دون تنازل عن أولويات المرحلة بوقف العدوان وانسحاب جيش الاحتلال، وإنهاء الحصار، وإعادة الإعمار، وعودة النازحين إلى بيوتهم في عموم قطاع غزة.

وحدة الشعب الفلسطيني وقوّة المقاومة في الميدان، هي المدخل الأهم لرسم المستقبل، وحماية الحقوق الطبيعية والسياسية للشعب الفلسطيني، فالشعب الذي قدّم هذه التضحيات إنما ينظر لمستقبل أفضل، والمقاومة التي أنزلت الهزيمة بالاحتلال في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر إنما تسعى لتحقيق تطلعات شعبها وحقه في تقرير المصير ونيل الحرية والاستقلال، فالمرحلة الحالية هي أشبه بلعبة حافة الهاوية أو عض الأصابع التي تستدعي المزيد من الصبر، والتمسك بالحقوق في وقت بدأت تتغير فيه موازين القوى تدريجيا، بانتقال القوّة ومفاعيلها إلى أيدي الشعوب وقواها الحرّة التي تجاوزت عقدة الخوف والفشل إلى المبادرة والفعل الكاسر للمألوف، وتقدّمت بمعادلات تعجز عن مواجهتها الدول بأساليبها التقليدية.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة