الحرب وأفول منظّمة التحرير الفلسطينية

[[{“value”:”

مثّلت منظّمة التحرير الفلسطينية في العقود الستّة الماضية الإطارَ التمثيلي للفلسطينيين في أماكن وجودهم كلّها، وكانت إطارًا معنويًا جامعًا، رغم بعض الصدامات المسلّحة التي شهدتها العلاقات الفلسطينية ـ الفلسطينية في بعض المراحل.

رغم ذلك، وفي مدى تاريخها الحديث، لم تكن للمنظّمة المكانة ذاتها عند الفلسطينيين، خصوصاً في ظلّ تحوّلات خطابها السياسي، الذي أزاحها من مكانها التمثيلي العام واستبدل بها إطارات السلطة المنبثقة عن اتفاقات أوسلو (1993)، إذ أصبحت اليوم شيئًا مختلفاً عمّا كانت عليه في العقود الأولى من سيطرة الفصائل المسلّحة عليها بعد هزيمة 1967، فقد أضعف الانتقال من إطار تمثيلي معنوي شامل إلى سلطةٍ محلّية محدودةِ الصلاحيات هذه المكانة، خصوصاً عند اللاجئين خارج فلسطين، والذين هم الأساس المُكوّن للقضية الفلسطينية، وأصبح مصيرهم في مهبّ الرياح، بعد أن شعروا بتخلّي إطارهم التمثيلي عنهم، والاكتفاء بحلّ جزئي لا يراهم.

تشكّلت منظّمة التحرير في إطار البحث عن كيان تمثيلي للفلسطينيين، الذين خسروا وطنهم بفعل إقامة إسرائيل في أرضهم، وعندما أُقيمت المنظّمة في 1964، بقرار عربي، كانت إسرائيل قد احتلّت جزءاً من فلسطين، وأُقيمت المنظّمة من أجل تحرير هذا الجزء.

بعد إنشائها بثلاث سنوات، جاءت هزيمة 1967، واحتلّت إسرائيل ما تبقّي من الأرض الفلسطينية، كما احتلّت أراضيَ دولٍ عربيةٍ مجاورةٍ. وبدأت المتغيّرات التي كرّستها الهزيمة الجديدة تفرض نفسها على المنطقة في زمن قياسي، ليبدأ بعدها مباشرةً البحثُ عن حلولٍ لمشكلة الأراضي التي احتُلّت في تلك الحرب، وهو ما فرض نفسه على المنظّمة بعد سيطرة الفصائل المسلّحة عليها بزعامة حركة فتح.

أخذت المنظّمة تعدّل مطالبها السياسية بحكم ضغوط مُتعدّدة، للتكيّف مع شروط الاعتراف بها، ومع شروط الواقع السياسي الجديد. بدأ تعديل الخطاب السياسي في 1974 بالحديث عن إقامة السلطة الوطنية في أراضي العام 1967 مرحلةً انتقاليةً للتحرير الكامل.

لكنّ هذا الخطاب الذي بدأ تكتيكيًا لم يلبث أن فرض تكيّفًا جديدًا على الفلسطينيين، بفعل عوامل داخلية، بانتقال مركز الحركة الوطنية إلى الداخل الفلسطيني، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، وطرد منظّمة التحرير منها، وبحكم الضغوط الدولية للاعتراف بقرار مجلس الأمن 242 (نصّ على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وتحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين) أساساً لحلّ القضية الفلسطينية بشكل نهائي، بأن يقتصر الحلّ على الأراضي المحتلة في 1967. وهو ما كان مرفوضاً من المنظّمة، باعتبار هذا القرار يتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها قضيةَ لاجئين، لا باعتبار القضية مشكلةَ شعبٍ له حقوقٌ مسلوبةٌ، وله الحقُّ في تقرير مصيره في أرضه.

وفي مدى تاريخها، كلّما حلّت نكسةُ بالمنظّمة تزايدت الضغوط من أجل هذا الاعتراف. استجابت المنظّمة لهذه الضغوط، وإن ببطء، وكانت الذروة الأولى لهذا الاعتراف في 1988، بعد أيام قليلة من إعلان الاستقلال الفلسطيني (نوفمبر/ تشرين الثاني 1988)، في زمن اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987).

لكنّ هذه الانتفاضة سرعان من انتكست بفعل الاحتلال العراقي للكويت، ما دفع القضيةَ الفلسطينية إلى الخلف في ظلّ احتدام الوضع في الخليج العربي والانشغال بحرب الكويت. بعد تلك الحرب، وفي ظلّ الترتيبات الأميركية الجديدة للمنطقة، طُرِح مؤتمر مدريد للسلام العام 1991، ولم تكن منظّمة التحرير، التي تحوّلت جزءًا من النظام العربي الرسمي، ترغب في البقاء بعيدةً عن مفاوضات البحث عن حلّ للصراع العربي ـ الإسرائيلي. فكان عليها أن تخضع لشروطٍ قاسيةٍ بوصفها أحد الأطراف الخاسرة في حرب الكويت.

جاء الدخول الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد مواربةً عبر الوفد الفلسطيني ـ الأردني المُشترَك، الذي كان المدخلَ الفلسطيني للاندراج في الترتيبات الجديدة للمنطقة. فتحت المنظمة بابًا تفاوضيًا خلفيًا مع الإسرائيليين في أوسلو. وقد توصّلت هذه القناة إلى ما عُرف باتفاق أوسلو. الذي كرّس القطيعةَ مع التاريخ السابق للمنظّمة، وأظهر أنّ الاتفاقات مع إسرائيل، وفي الجهات العربية كلّها، ستكرّس حدود العام 1967 أساسًا للحلّ النهائي، وهو ما فكَّك التمثيل الفلسطيني فعلياً ببناء السلطة الوطنية الفلسطينية، والتعامل معها بوصفها البديلَ الفعلي لمنظّمة التحرير.

ظهر المأزق الفلسطيني الداخلي بظهور تحدٍّ فلسطينيٍّ من خارج أُطر المنظّمة، ممثّلًا بحركة حماس، القطب السياسي الذي نجح في فرض نفسه على الوضع الفلسطيني. وبمشاركتها في الانتخابات عام 2006، والفوز، أصبحت ندّا قويّا. ومع الصدام المسلّح في 2007، طردت حركة فتح من قطاع غزّة، وتحوّلت سلطةً أُخرى في غزّة.

مع هذا التحوّل، لم يعد الحديث عن خلافات فلسطينية ـ فلسطينية، فقد أصبح هناك انقسامٌ فلسطيني لم تتمكّن الساحة الفلسطينية، ولا الوساطات الإقليمية، من معالجته. لقد كان تقدّم “حماس” وتراجع “فتح” مُؤشّراً على تراجع منظّمة التحرير، وفقدانها مكانتها لدى اللاجئين، الذين هُمّشوا تماما في الاتفاقات الانتقالية، وبقيت مكانةُ المنظّمة تتراجع، فقد تبين أنّها غيرَ قادرةٍ على إنجاز حلّ في حدود العام 1967، وأصبحت عالقةً في اتّفاقات انتقالية لعقود، ما أفقدها مكانتها، حتّى عند سكّان الأراضي المُحتلّة.

في ظلّ هذه المتغيّرات، وفي ظلّ الوهن والترهّل، الذي أصاب حركة فتح والفصائل الأخرى المُمثَّلة في المنظّمة، تحوّلت الأخيرة إطارا واهيا هرما استخداميا يُستدعَى عند الحاجة، ولم تجد الدعوات الفلسطينية كلّها إلى إعادة الاعتبار لمنظّمة التحرير، بصياغة جديدة للمشروع الوطني الفلسطيني، آذانا صاغيةً في أوساط القوى المُشكِّلة للمنظّمة، وهو ما جعل منظّمةَ التحرير إطارا مهلهلاً من دون مشروعٍ وطنيٍّ.

انقسمت السلطة بين واحدةٍ في قطاع غزّة، محاصرة من إسرائيل، شهدت أربع حروب/ اعتداءات إسرائيلية خلال العقدَين الأخيرَين، وأخرى في رام الله، ظهرت بوصفها متصالحةً مع الاحتلال عبر التنسيق الأمني. وظهر التناقض، وكأنّ هناك سلطةً في رام الله تستجدي السلام مع إسرائيل من دون أن يستمع لها أحد، وسلطةً في قطاع غزّة اختارت المقاومةُ، ما جعلها تحصل على تعاطفٍ وتأييدٍ فلسطينيين أكبر من سلطة رام الله، وهو ما يعود إلى التعنّت الإسرائيلي، الذي لا يُريد حلّاً مع الفلسطينيين سوى بمزيد من الجرائم في حقّهم.

في الحرب التي انطلقت من “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (2023)، غابت منظّمةُ التحرير من الساحة السياسية، ولم يعد لها وجودٌ في ظلّ الحرب المُشتعِلة منذ أكثر من عشرة أشهر. وحضرت حركة حماس في المفاوضات المعنية كلّها في الحرب، وهي الجهة المطلوب إبادتها، حسب المطالب الاسرائيلية، وإخراجها من قطاع غزّة نهائيا. ولكن إسرائيل لا ترى أحدا تتفاوض معه من أجل أسراها عند “حماس”، سوى “حماس” نفسها.

بالتالي، “حماس” هي اللاعب الأساس في الساحة الفلسطينية اليوم، رغم الجرائم كلّها التي ترتكبها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزّة. وهو ما يعني أنّ المنظّمة باتت إطارا تجاوزه الزمن، إذا لم يجد طريقةً يُدخِل فيها حركة حماس، وهو ما سيشبه دخول الفصائل الفلسطينية للمنظّمة بعد هزيمة العام 1967، وهو ما يعني تغييرا جذريا في المنظّمة، وفي القوى الممسكة بها، وإلّا ستصبح المنظّمة حكومةَ عمومِ فلسطين جديدة.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة