الدعاية في مقابل الوقائع.. ماذا تريد إسرائيل في الحقيقة؟

[[{“value”:”

في البداية لا بدّ أن نعيد التأكيد بوضوح أن إسرائيل كانت الطرف الخاسر تمامًا يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكل ما فعلتْه لمحاولة إعادة الهيبة لجيشها باء بالفشل، ولكن يُحسَبُ لإسرائيل أن لديها قدرةً عاليةً على استعادة التوازن مع الوقت والتركيز على الأهداف الإستراتيجية الموضوعة مسبقًا ومحاولة تجيير كل حدثٍ لتتمكن من الاقتراب أكثر نحو تحقيق أهدافها الإستراتيجية، بمجرد أن تحصل على الدعم الدولي العسكري والسياسي الذي تعوّل عليه، والذي لا يمكنها أن تفعل شيئًا دونه.

علمًا بأن حديثنا في هذا المقال يركّز على الجانب السياسي، إذ إن إسرائيل ما زالت تعتبر الطرف الخاسر على المستوى العسكري.

قرن من الدعاية المتضاربة
إن كان هناك فترة تاريخية يمكن من خلالها فهم ما يجري في الأراضي الفلسطينية هذه الأيام، فإننا لن نجد أفضل من أن نرجع قرنًا من الزمن إلى أحداث الفترة من 1915 حتى 1948. وجه الشبه الذي أتحدث عنه هنا هو كثرة الدعايات المضادة والمتضاربة التي كانت تهدف للتغطية على المشروع الحقيقي الذي كان يدور في مطابخ السياسة الغربية، ولم يظهر بوضوح حتى أصبح حقيقةً بعد قرار تقسيم فلسطين عام 1947 ليتحول إلى واقعٍ إبان النكبة الفلسطينية عام 1948.

منذ مراسلات الحسين- مكماهون الشهيرة التي كانت بريطانيا فيها تعِد العرب “بالاستقلال” تحت رايةٍ واحدة، في نفس الوقت الذي كانت تتفق فيه مع فرنسا سرًا على تقسيم المناطق العربية بينهما وترتِّب لإصدار وعد بلفور، إلى الدعاية البريطانية التي أصرت على نفي وعد بلفور حتى صدور صك الانتداب وظهور كذبها، حتى الكتاب الأبيض الأول والثاني وغيره من الكتب التي أصدرتها بريطانيا أثناء الثورات الفلسطينية المختلفة لتهدئة الفلسطينيين الذين كانوا يرون أراضي بلادهم تُسرَّب شيئًا فشيئًا من قبل البريطانيين إلى أبناء المشروع الصهيوني من المهاجرين الأوروبيين، إلى انتظار الفلسطينيين دخول الجيوش العربية المكبلة بجنرالات بريطانيين واتفاقياتٍ واحتلال بريطاني وفرنسي فعلي في بعض الحالات، والذين أصروا على عدم الدخول في حرب النكبة حتى انتهاء الانتداب البريطاني رسميًا.. حتى أصبحت إسرائيل أمرًا واقعًا تتعامل معه الأنظمة الرسمية العربية والإسلامية على هذا الأساس.

وجه الشبه هنا هو هذه الدعاية الإسرائيلية والأميركيَّة المتضاربة التي تخرج علينا يوميًا في وسائل الإعلام منذ بداية الحرب الحالية لتخلط الأوراق وتشتت الأذهان عن الأهداف الحقيقية التي تبلورت لدى حكومة إسرائيل الحالية، ومن ورائها الإدارة الأميركية وعدد من الدول الأوروبية. فسواء كان هناك خلاف بين هذه الأطراف أم لم يكن، فإن هناك هدفًا موحدًا لديها جميعًا، وهو القضاء على حركة حماس مهما كلف الثمن، وتغيير الوضع العام في غزة سواء بشكل مرحلي أو دائم.

ما يبدو أن الخلاف يدور حوله هنا بين القوى الغربية بشكل عام من جهةٍ وحكومة نتنياهو من جهةٍ أخرى هو شكل تغيير الوضع العام في غزة وليس المبدأ نفسه، فبينما تريد تلك الدول عودة السلطة الفلسطينية وتجريد قطاع غزة من السلاح بالكامل، تريد حكومة اليمين الإسرائيلية تفريغ قطاع غزة بالكامل من السكان وإعادة احتلاله، وأقول هنا بشكل واضح: إن هدف تفريغ قطاع غزة من السكان، الذي عملت عليه إسرائيل في ستينيات ثم في سبعينيات القرن الماضي ما زال يلح على الذهنية الإسرائيلية الحالية، وإسرائيل بحكومتها اليمينية الحالية تريد تنفيذ هذا السيناريو وإن ادعت غير ذلك، وأي ادعاء غير ذلك بات يعتبر قصر نظر.

إن كان هناك فترة تاريخية يمكن من خلالها فهم ما يجري في الأراضي الفلسطينية هذه الأيام، لن نجد أفضل من الفترة بين 1915 و1948، التي حفلت بدعايات مضادة متضاربة كانت تهدف للتغطية على المشروع الغربي الحقيقي الذي لم يظهر بوضوح حتى أصبح حقيقةً بعد قرار تقسيم فلسطين عام 1947 ثم النكبة

الترانسفير لا زال قائما
نظرة سريعة مجردة إلى السيناريو الذي تقوم به إسرائيل على الأرض حاليًا، ودون سماع أي تسريبات أو أخبار أو تصريحات بهذا الشأن من أي طرف، يتبين أن إسرائيل تعمل بكل قوتها على تنفيذ سيناريو الترانسفير لسكان غزة أو غالبيتهم العظمى على الأقل، وتفريغ المنطقة منهم سواء باتجاه سيناء – بغض النظر عن رأي مصر في الموضوع – أو عبر سيناء إلى دول أخرى حول العالم.

وبالرغم من أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أن أطرافًا عربيةً إقليمية قد وافقت بالفعل على هذا السيناريو أم لم تفعل، فإن ما يهمنا هو النظر إلى ما يجري على الأرض كما ذكرت سابقًا.

وهذا السيناريو تريد إسرائيل تنفيذه باعتباره هدفًا إستراتيجيًا نهائيًا، سواء وافقت عليه الولايات المتحدة أم لم توافق، فاليمين الإسرائيلي بات يرى ضعف الإدارة الأميركيّة الحالية بشكل واضح، وبات يفهم الخلافات الأوروبية ويستوعب أن الأطراف العربية التي صاغت معه اتفاقيات السلام معنية بإنهاء هذا الملف دون تحمّل تبعاته، ولهذا فإنه يرى نفسه الآن القوة التنفيذية التي تقوم بما يمكن وصفه بالأعمال القذرة، مراهنًا في ذلك على ذاكرة السمكة وسياسة الأمر الواقع التي طالما نجحت القوى الغربية في استغلالها للتعامل مع هذه المنطقة خلال مائة سنة.

يمكننا ضرب الكثير من الأمثلة على ذلك لفهم هذه المعادلة التي نراها اليوم، ففي بداية الحرب كانت الدعاية الإسرائيلية التي رددتها وسائل الإعلام الغربية والعربية على حد سواء تتمحور حول ضرورة توجه الغزيين جنوبًا نحو “المناطق الآمنة”.

وكانت الحجة الإسرائيلية في الميدان أن لا محرمات أمامها في شمال القطاع؛ باعتبار أن المشكلة الأساسية هي الصواريخ التي تنطلق من الشمال، ولإثبات جديتها في ذلك قصفت إسرائيل المستشفى المعمداني، ثم لجأت لإشغال الرأي العام العالمي بنفي ضلوعها في ذلك واتهام المقاومة الفلسطينية، وبذلك انشغل العالم في التحليل والإثبات والنفي، لتستغل إسرائيل ذلك بفتح الباب واسعًا لتدمير المستشفيات والمدارس وغيرها؛ استغلالًا للوقت الذي قضاه العالم في محاولة فهم ما جرى سواء بتبريره أو نفيه أو إثباته، وهو ما أدى في النهاية لجعل الهجوم على مجمع الشفاء الطبي وتدميره يبدو مسألةً “عاديةً” بعد أن تجاوز العالم فاجعة المستشفى المعمداني.

لاحقًا – وخلافًا لما نشرته في البداية من دعاياتٍ حول كون مشكلتها الأساسية مع شمال قطاع غزة – بدأت إسرائيل فعليًا بالتوجه جنوبًا وركزت دعايتها على فكرة (خان يونس أو كل الجنوب)، وشغلت العالم بأخبار متضاربة حول رفض الإدارة الأميركية ذلك، وخلافات داخلية إسرائيلية لتدخل بالفعل إلى خان يونس وتجعل منطقة رفح هي المكان الأكثر اكتظاظًا بالسكان حين ظن الفلسطينيون أن وجودهم قرب الحدود مع مصر يمكن أن يضمن لهم عدم مهاجمة قوات الاحتلال للمنطقة.

وها هي اليوم تقرع طبول الحرب في رفح، آخر منطقةٍ جنوبية في قطاع غزة، وتركز كل دعايتها على رفح، في حين تنشغل وسائل الإعلام بنقل أخبار الرفض الدولي والعتاب الأميركي الناعم والتحذيرات من هذه العملية، في نفس الوقت الذي شغلت فيه الدنيا بأزمة وكالة الأونروا المفتعلة التي يبدو واضحًا أنها أثيرت بالتنسيق الكامل مع الإدارة الأميركية.

كما أن الدعايات الإعلامية التي تسربها جهات مختلفة لوكالات الأنباء الأميركية والإسرائيلية أسبوعيًا حول وجود “ضغوط” على نتنياهو – لا سيما من الأميركيين – للقبول بصفقات تبادل ووقف إطلاق النار، ليخرج نتنياهو بعد انتشارها بعدة ساعات ليعلن أن لا وقف للحرب، كلها مقصودة بذاتها، وتهدف للتلاعب بالروح المعنوية للجانب الفلسطيني بالذات، إذ إنها تعد واحدةً من خدع الحرب التي باتت متكررة بشل لافت في هذه الفترة.

ما يجب أن نعلمه هو أن حكومة نتنياهو قد حسمت خياراتها منذ البداية ناحية تنفيذ برنامجها في غزة، مهما كلف الثمن، وأن لديها ضوءًا أخضر من الدولة العميقة في الولايات المتحدة لاستغلال هذه الفرصة الذهبية إلى أبعد حد، ولا معنى لكل هذه الدعايات التي تنشرها وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية باستمرار حول الخلافات بين الطرفين وما شابهها، كما أن نتنياهو لا يعبأ بأسراه ويتمنّى نهايتهم حتى يتخلّص من هذا العبء، بل إن في حكومته عددًا من أبناء التيار الديني الخلاصي الذي يرى أن توسعة الحرب تعتبر مصلحة دينية وقومية كبرى.

الحل الوحيد لهذه القضية يأتي على ثلاثة مستويات:

أولها: عدم التعاطي مع أي تسريبات أو أخبار من جهات رسمية أميركية أو إسرائيلية مطلقًا، لا عن خلافات ولا عن ضغوط ولا عن غيرها، وهذا الأمر يجب على وسائل الإعلام العربية أن تعمل به كذلك.
وثانيها: فعلى مستوى الشعب الفلسطيني، ينبغي أن يفهم الفلسطينيون أن إسرائيل إن نجحت في السيناريو الذي تحاول تطبيقه الآن في غزة فستبدأ بتطبيقه بحذافيره في الضفة الغربية، هذا بالطبع بعد الانتهاء من الجبهة الشمالية التي تقرع إسرائيل طبول الحرب فيها، ولا أستبعد أن تبدأ هي الهجوم الواسع ولا تنتظر تدحرج الأوضاع للأسوأ فيها، ولذلك فإن الصمت والترقُّب ليسا في مصلحة الشعب الفلسطيني بأجمعه.
والثالث: على مستوى الفصائل الفلسطينية والقوى الرسمية والشعبية حول العالم الغاضبة مما يجري، والتي إن تراجعت على المستوى السياسي، فإن إسرائيل ستمضي في مخططها، وسنجد مئات آلاف البشر يتوجهون تحت النار باتجاه الحدود المصرية، وهو السيناريو الأكثر رعبًا في الحقيقة؛ لأنه يعني عدم عودة الغزيين إلى غزة نهائيًا، وقد رأينا هذا المشهد سابقًا مرتين خلال الخمسة والسبعين عامًا الماضية، ومن لا يعتبر بالتاريخ فهو لا يفهم الواقع.
إن فتح العيون على السيناريو الأسوأ والتخلص من عقدة “السيناريو غير المعقول” وفهم أن لا حدود للشهية الإسرائيلية في الحقيقة، يعتبر أكبر الواجبات في مواجهة هذا المشروع التوسعي الذي يرى المنطقة كلها عدوًا لا بدَّ من إخضاعه بالقوة.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة