[[{“value”:”
عمار الزبن، هو روائي آخر أنتجته السجون الإسرائيلية ونضال المقاومة، توقفت بندقيته فناضل بقلمه، وكتب وسرّب من محبسه روايات أبطالها شخصيات حقيقية، ينقلنا فيها إلى لحظاتهم في الميدان، وفي الأسْر.. هو نفسه كان بطل بعض تلك الروايات.
يملك الزبن قلمًا يجعلك تعيش الأحداثَ، كما عاشها أصحابها، وتتخيل نفسك مع أبطال أعماله، وينطلق خيالك لتتصور الأماكن، وتحلّق في شوارع القدس، وجبال نابلس، وقرى فلسطين، وتفكّر في حلول للمآزق، وتعيش مشاعر النضال والعناد والصبر.
والمدهش أن الزبن، هو أسير قسامي عاش في السجون أكثر مما عاش خارجها، فقد عرف الزنازين صغيرًا عام 1994، وكان عمره وقتها 16 عامًا، إذ حُكم عليه بالسجن عامين ونصف العام، وعندما خرج شكل خلية “شهداء من أجل الأسرى” التي نفذت عمليات لأسر الجنود الإسرائيليين بهدف مبادلتهم بأسرى فلسطينيين.
وهكذا، تم اعتقاله مجددًا عام 1997، لتصدر المحاكم الإسرائيلية بحقه أحكامًا بالسجن المؤبد 27 مرة، أو ما يعادل 2700 سنة، بتهمة المسؤولية عن عمليات قتل فيها 27 جنديًا إسرائيليًا، وأصيب 323، فأصبح بذلك من أصحاب أعلى المحكوميات في السجون الإسرائيلية، واعتبرت الصحف الإسرائيلية اعتقاله نجاحًا كبيرًا لأجهزة الأمن.
رأيناهم في النفق بشرًا يتبادلون الحكايات، ورأيناهم ملائكة تتعلق أرواحهم وقلوبهم بالله الواحد الأحد، وأخيرًا بعد طول انتظار، حانت اللحظة بعدما تجمع عدد كبير من الجنود فوق أنقاض بيت عماد، فهمس لهم علاء: استعدوا وتوكلوا على الله
أما هو، فقابل الحكم بابتسامة ساخرة، ورفع مصحفه وشارة النصر، ومضى إلى سجنه المظلم مرفوع الهامة.
وبهذا فإن عمره الذي تجاوز الآن نحو 45 عامًا، لم يعش منه خارج السجن إلا 17 عامًا تقريبًا، وفي سجنه حصل على شهادة الثانوية العامة، ثم بكالوريوس العلوم السياسية، ثم الماجستير في العلوم السياسية من جامعة القدس المفتوحة، والتحق بعدها ببرنامج الدكتوراه.
في اعتقاله الثاني، تعرض لتعذيب شديد استمر 3 أشهر خلال التحقيق في سجن المسكوبية، وحرموه من زيارة أهله 8 سنوات، حتى استشهدت والدته خلال مشاركتها في إضراب عن الطعام؛ تضامنًا مع الأسرى في أغسطس/ آب 2004، ثم لحق بها والده، فسمحوا وقتها لزوجته وابنتيه بشائر وبيسان بزيارته عام 2005.
عندما يكتب المقاتل
يقول عمار الزبن: إن أصعب أنواع الكتابة الأدبية أن تكون مشاركًا في الحدث؛ فتكتب ما كنت جزءًا منه، وهذا ما دفعه للتأجيل المتكرر لمشروع الكتابة نحو عشرين عامًا، ولكنه حين تكلم أخيرًا كان جديرًا أن يسمع.
لقد منحته التجربة والمحنة تلك الصفة التي يسميها النقاد: “الأصالة”، وقد قامت أعماله التي قدمها بـ “أنسنة الحدث”، فلم يعد المقاوم فردًا مجهول الهُوية والمشاعر، يمرّ كرقم في نشرة أخبار، أو نقرأ كلماته الأخيرة التي سجلها ومات.. إننا في هذه الروايات نعيش معه حياته كلها، ونشاركه آماله، وإحباطاته، ولحظات صعوده وهبوطه، ونصره أو استشهاده.
كتب الزبن 6 روايات حتى الآن، كلها عن أحداث حقيقية، هي “عندما يزهر البرتقال” و”خلف الخطوط” و”ثورة عيبال” و”أنجليكا” و”الزمرة” و”الطريق إلى شارع يافا”.
مع “الزمرة”
ونقف هنا عند رواية “الزمرة”، وربما نقف مع أعمال أخرى في مقالات قادمة.. كتب الزبن هذه الرواية في سجن رامون الصهيوني بعد أن حصل على تفاصيلها من اثنين من أبطالها تم أسرهما، وتدور أحداثها خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، وهي تصور الحياة الإنسانية لهؤلاء الأبطال، وكما هي عادة الزبن فإن العمل، بكل ما فيه من أسماء وتواريخ وأماكن وأحداث، حقيقي من الألف إلى الياء، وقد أهدى روايته إلى رجال نخبة القسام في غزة “تحت الأرض وفوقها وفي لجج بحرها”.
عندما تقرأ الرواية الآن، تنتقل إلى زمن غزة التي كانت يومًا مدينة تضم بيوتًا، لكنها ليست كالمدن ولا كالبيوت، وذلك قبل أن تهدمها الوحشية الصهيونية في حرب الإبادة الأخيرة، فلا تترك فيها حجرًا على حجر.
الحدث يبدأ من حي الأمل بخان يونس، حيث يقيم البطل الأول إبراهيم، تنزل الصواريخ على هذا الحي كالصواعق فتهشم الذكريات، وتحرق خارطة الوطن السليب المعلقة على جدار بيت “أم خالد” (أمه)، وليس هذا إلا استمرارًا لقصة معاناة عاشتها الأم من زمن النكبة عندما طردتها العصابات الصهيونية من بئر السبع، ولا تزال تنتظر العودة لبيتها الذي تملك مِفتاحه.
أما زوجة إبراهيم، فهي نموذج لامرأة فلسطينية تتوقع أن يخرج زوجها لمقاومة الاحتلال فلا يعود، لكنها تحاول أن تقنع نفسها “أن الله -عز وجل – سيبقي لها الرجل الطيب والحبيب الرائع، فليس عدلًا أن تموت القصص الجميلة في غزة، وليس قدرًا أن ينتصر الغزاة علينا، ولا بد أن يقاوم إيماننا باطلهم، حتى تنتصر الحياة ويبقى الحب.. وأنا أكره أن يفارقني زوجي رغم علمي أن الخير في صد المحتلين عنا وعن أرضنا”.
الغزّي.. الشهيد الحي
وتعيش في الرواية علاقة الغزيين بالكهرباء، فهي هناك “ترف لا يليق باللاجئين والكادحين والحالمين.. وعليك إن كنت غزيًا أن تكره الكهرباء، حتى لا تتعود على ساعات توفُّرها القليلة؛ فكل عامين هناك حرب، أول ضحاياها محطة الكهرباء العجوز”.
أطلقت الطائرة الإسرائيلية صاروخًا فدمر بيت ياسر (وهو البطل الثاني) في المخيم، وقتل أسرته، واحترق قلبه لفراق أمه الشهيدة كما، تحترق قلوب أهل غزة كل يوم على فراق أحبابهم، لكن هناك قاعدة أدركها الجميع، هي: “أن تكون غزيًا، فأنت شهيد مع وقف التنفيذ حتى يجيء دورك في إحدى الحروب المتلاحقة، أو سنوات الحصار الممتدة؛ أو عبر صاروخ ذكي بدعوى أنك قنبلة موقوتة.. لذلك لا تصف الغزي عندما يغادر بالميت؛ فمكتوب على جبينه عندما يولد: أنا من غزة إذن أنا شهيد!”.
أما علاء (البطل الثالث) فقد قال لأمه: أنتما في عيني يا أمي.. لكنك تعلمين أنني اخترت طريقًا نهايته أحد أمرين: أن أنال الشهادة في ساحة المعركة، والثاني أن أمسك بيدك الجميلة، وأطير بك إلى قريتنا الرائعة في اللد بعد تحريرها من الصهاينة، وما ذلك على الله ببعيد.
في حب فلسطين، وأمي، وأمل!
أما البطل الرابع أحمد (الملقب بسمارة)، فهو عاشق ينظم لمحبوبته كلمات يغترفها من بحر قلبه؛ فللعشق في غزة مذاق خاص، لكن عندما تزور خطيبته (أمل) بيتهم تصله رسالة الاستدعاء، فيضطر لتركها، ليجد علاء وإبراهيم ومحمد في انتظاره، وينضم لهم عماد، فتتشكل الزمرة (المجموعة) التي تم تكليفها بمهمة خاصة.
تقف الرواية عند أحلام شخوصها، فأمل كانت ترسم في مخيلتها صورة فارس أحلامها، فتقول: أريده مجاهدًا يحمل بين جنباته حب الشهادة، والدفاع عن أرضه، فالذي لا يفعل ذلك أخافه على نفسي وأولادي”.
أما أحمد (سمارة)، فيقول: إن “فلسطين، وأمي، وأمل، والبندقية، لا تغادرنني مطلقًا، فلا يمكنني فصل الواحدة عن الأخرى، فمن تخلى عن إحداهن سيفقد الأخريات”، ويواصل متحدثًا عن رؤيته للحب: “حتى نعمر أرضنا يجب أن تكون نظيفة من الشر، وحتى نصل إلى ذلك يجب أن تتوفر لدينا أسباب القوة، وأهمها الأسرة الصالحة التي تبدأ مني ومن خطيبتي المؤمنة؛ التي تدفعني للقتال من أجلها ومن أجل بلدي وديني وأمي”.
تكمل زوجة إبراهيم الصورة: “إن المقاتلين وحدهم هم العشاق، وغيرهم عابرون في العشق؛ لأن الحب الذي تحميه البندقية، ويختلط مع عرق الثورة وحده يستحق الخلود.
مع الرجال الخمسة في النفق
لكل بطل في الرواية حكايته، لكن يجمعهم أنهم “رهبان بالليل، مقاتلون في النهار” يقفون على أرضية أخلاقية ثابتة وإيمان لا يلين.
وتوضح الرواية المراحل التربوية التصاعدية التي يمر بها المقاتل قبل أن يصبح من “نخبة القسام” بجوانبها الإيمانية والعقدية والثقافية ليصبح مجاهدًا ملتزمًا تجاه دينه وشعبه وأمته، ولا يتم اختياره في صفوف القسام إلا بعد التحقق من خلقه تجاه أهله والناس، واستعداده للبذل من أجل وطنه السليب.
كلف الرجال الخمسة بعملية استشهادية، فتجمعوا في نفق أسفل بيت عماد الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية، وهناك عاشوا وعشنا معهم أسبوعين في النفق ينتظرون اللحظة الحاسمة، طعامهم تمرات قليلة وشربة ماء، ولا يحظون حتى بنسمات هواء نقية.
رأيناهم في النفق بشرًا يتبادلون الحكايات، ورأيناهم ملائكة تتعلق أرواحهم وقلوبهم بالله الواحد الأحد، وأخيرًا بعد طول انتظار، حانت اللحظة بعدما تجمع عدد كبير من الجنود فوق أنقاض بيت عماد، فهمس لهم علاء: استعدوا وتوكلوا على الله.
نهاية أم بداية؟
فجّرت (الزمرة) العبوة الناسفة في فتحة النفق فأحدثت انفجارًا مزق أجساد عدد كبير من جنود الاحتلال، وقبل أن يستفيق بقية الجنود خرجت نخبة القسام من العين الثانية للنفق، فواجهتهم من “المسافة صفر”، وأوقعت بهم كثيرًا من القتلى، وكان وقع المفاجأة سببًا في نجاحهم وارتباك العدو.
ولكن المعركة مع ذلك طالت لساعات حتى بدأت ذخيرة المقاتلين تنفد، وكان أحمد (سمارة) أول الشهداء؛ فلما تفجرت الدماء من جسده قال مناجيًا حبيبته (أمل): “هاك دمي.. ما كنت أبخل به على وطن أنت أجمل ما فيه، والملتقى الجنة”.
استشهد أحمد محتضنًا سلاحه، وقد اخترق جسدَه رصاص كثير، فكتم شعوره بالألم، واختار أن يرحل واقفًا بهدوء الأشجار، وعيناه تحميان ظهر الوطن.
وكان علاء هو الشهيد الثاني، نزفت دماؤه وهو يطلق العنان لتكبيراته؛ فقد برّ بقسمه: إنهم لن يمروا إلا على جسده.
أما عماد فقد كان سيد المكان؛ حيث تمكن من استدراج العدو إلى كمين جديد، واستخدم القنابل اليدوية ليلحق أكبر الخسائر بهم، ثم اخترقت رصاصة وجهه الباسم ليروي أشجار الزيتون بدمه.
استشهد ثلاثة، وبقي من الزمرة إبراهيم ومحمد يقاتلان جنود العدو من داخل النفق، حتى نفدت ذخيرتهما، فألقى جندي إسرائيلي قنبلة دخان داخل النفق فاضطرا للخروج، فأسروهما، وخضعا للتحقيق في سجن عسقلان، ولم تعرف “كتائب القسام” أنهما على قيد الحياة إلا بعد ظهورهما في سجن إسرائيلي”.
كانت تلك صورة المعركة البطولية، كما رواها إبراهيم ومحمد للأديب عمار الزبن الذي شعر بنشوة النصر على قيود السجن، وهو ينهي السطر الأخير من الرواية.
على مدى الأشهر الستة الأخيرة، وعلى مدى السنوات التي سبقتها هناك آلاف الحكايات لأمثال هذه الزمرة، لشباب يحبون الحياة والوطن، وقلوبهم قادرة على العشق، ولكنهم يحبون الكرامة والحرية، وهم مستعدون لدفع أرواحهم في سبيل ما يحبون.. وحكايات كل هؤلاء في انتظار من يكتبها.
“}]]