العجز العربي.. مآلات مرعبة

وهكذا أنحت إسرائيل على مصر باللائمة في تجويع غزّة وحرمان أهلها من أبسط حقوق الإنسان في الحياة، حين قال محاميها، أمام محكمة العدل الدولية، إن مصر هي التي أغلقت أبواب معبر رفح الخاضع لسيادتها، ومنعت دخول المساعدات لغزة. وهي، أي إسرائيل، حين تفعل ذلك فإنما تجلد كل من غرقوا في أوحال الصلح معها منذ البداية.

على أن مثل هذا الموقف ليس مفاجئًا ولا غريبًا، بل سوابقه في التاريخ كثيرة على مستوى الأفراد والجماعات والدول. فالسيد من هؤلاء دائمًا يجلد ويلوم تابعه في كل تقصير، ويحمله إثمَ ما ارتكب من جرائم، لأنه في الأصل ينتزع منه إنسانيته قبل أن يدخله أروقة قصره، ويعتبره بعد ذلك مجردَ مِشجَب يعلّق عليه كل فشل وكل خطيئة.

هكذا تتعامل معنا إسرائيل نحن العربَ، فهي تستمد اعتبارها السيادي فوقنا من السيد الأكبر الذي تَأْوي إليه في البيت الأبيض، وفي مبنى الكونغرس والذي نخشاه أكثر من خشيتنا خالقَنا عزّ وجل. أما نحن العربَ، فإن مكاننا هناك، في نظر إسرائيل وحماتها، هو ملحق يقيم فيه الخدم والتابعون لِيُجْلَدوا حين يُقَصِّرون، بل أزعم أن كل كيان من كياناتنا في نظرهم هو مجرد مِسمار دُقَّ في الواجهة ليعلق عليه كل صاحب حاجة من أرباب القصر متاعَه!

ما الغاية التي يريد الغرب وإسرائيل بلوغها من حملات التطبيع؟ خير من أجاب عن هذا السؤال هو الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، في كتابه العظيم “ثغور المرابطة”، حين قال إنهم يريدون ممن يستجيب للتطبيع أن ينسلخ من أخلاقه وذاته وهويته، فيصبح تابعًا يحركه سيده متى وكيف شاء

أعلم أن هذا جلد للذات لكنه، يا ويلتاهُ، مسْتَحَقٌ ومؤلم! فمن يقبل الدَّنية بدل النِّدية أول مرة، يهون بعدها ويُهان. ذات يوم زار مناحيم بيغن رئيس وزراء إسرائيل، الذي تقاسم جائزة نوبل للسلام مع أنور السادات، زار القاهرة ووقف خطيبًا عند الأهرام، وقال “أجدادنا اليهود هم الذين شيدوا هذه الأهرامات!”

يا لها من كذبة كبرى وتزوير فاضح ومفضوح للتاريخ، اكتفى السادات بأن يقابلها فحسب بضحكة بملء شدقيه، كما كان يفعل، ذاك أن الأهرام بناها المصريون، وهي موجودة في مصر قبل وصول اليهود إليها بقرون وقرون.

هكذا تتعامل إسرائيل مع من يمد إليها من العرب اليد، صلحًا أو رغمًا، ولسان حالها يقول “أنتم لا شيء، عاجزون عن البناء وعن الإنجاز وكل ما عندكم هو منا ولنا، أنتم لا شيء”! وهي وحماتها في الغرب يسعون بكل السبل كي تصبح إسرائيل جزءًا طبيعيًا من المنطقة، يحبها العرب وتدعي حبهم، ثم تلفظه عند أي لحظة مفارقة في الزمان والمكان، كما فعل محاميها في لاهاي. إنه حب من جانب الواحد الخانع المهان للسيد صاحب السوط والصولجان.

إذن، فما الغاية التي يريد الغرب وإسرائيل بلوغها من حملات التطبيع؟ خير من أجاب عن هذا السؤال هو الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، في كتابه العظيم “ثغور المرابطة”، حين قال إنهم يريدون ممن يستجيب للتطبيع أن ينسلخ من أخلاقه وذاته وهويته، فيصبح تابعًا يحركه سيده متى وكيف شاء.

وإن قال أحدهم اليوم إن إسرائيل تخشى على مستقبلها، فتريد أن تطبع مع العرب، فهو يبتاع الوهم بل يبيع به نفسه. فمنذ متى جعل العرب إسرائيل تخشاهم، قبل ملحمة “طوفان الأقصى” بطبيعة الحال؟ فهي اليوم تخشى فعل من هم على شاكلة مجاهدي القسام وسرايا القدس، وهي مطمئنة إلى أن أصحاب النياشين الذين هزمتهم في الميدان مرات عديدة لن يحركوا ساكنًا. وهل تحرك الفريسة رقبتها وهي بين فكّي مفترسها؟

والعجب أنه لم يصدر عن مصر الرسمية موقف يرد على محامي إسرائيل، ولو كان مجرد كلام، كما تعودنا أن نسمع لسنين طويلة. فلو أنها فعلت، أي مصر، لاستعادت بعض هيبة أمام العالم، ولجعلت إسرائيل تفكر طويلًا إن أرادت أن تجتاح محور فيلادلفيا لتضييق الخناق على المقاومة في غزة.

على أن الأنكى والأكثر إيلامًا، أن النظام العربي كله اتفق على أن يترك جنوب أفريقيا ترفع الدعوى أمام محكمة العدل الدولية من دون مشاركة أي دولة عربية، وربما كان خيرًا ما فعلوه، فهم كانوا، على الدوام، أهل فشل لا أهل نجاح.

هذه هي مشكلتنا الكبرى مع النظام العربي: العجز في كل شيء وفي كل وقت. ومع طول سُبات هذا النظام وتمسكه الأبدي بالسلطة امتد العجز إلى الشعوب فطال ليل سُباتها، وإن صحت، أو حاولت أن تصحوَ أعادتها سياط القمع إلى كوابيس الاستبداد، فتخاف وتستكين وتُغيَّب عن الساحة، وتصبح الأوطان نهبًا لكل طامع.

هذا النظام العاجز لا يرى الدنيا كما هي من حوله، ولا يتعلم من التاريخ. وكما قال وينستون تشيرتشل رئيس وزراء بريطانيا السابق، وهو للمناسبة أحد أعتى أصحاب الفكر العنصري تجاه القضية الفلسطينية، “إن أردت أن تستشرف المستقبل فتمعن في التاريخ بعناية”.

لو أن نظامنا العربي يعود للوراء سنوات قليلة فحسب، ليراجع تاريخه الحاضر لوجد أن ما يجري في البحر الأحمر من تبعات الحرب الإسرائيلية الغربية على غزة، ينذر بما هو أكبر وأعظم من ضرب اليمن الذي يحكمه “أنصار الله” الحوثيون. فلو رد هؤلاء على الغارات الأميركية البريطانية، كما توعدوا، وتصاعد الموقف وأقفل باب المندب والبحر الأحمر أمام الملاحة الدولية، وهو ما يعتبره الغرب تهديدًا للاقتصاد العالمي، قد تتخذ أميركا، وشريكتها التابعة بريطانيا، من ذلك ذريعة للقيام بعمل عسكري يتجاوز حدود الغارات الجوية المنطلقة من على متن حاملات الطائرات، وما تطلقه من صواريخ موجهة.

فما الذي قد يمنع الأميركيين من النزول على شواطئ اليمن الجنوبي، كما فعل الإنجليز عام 1839، وهم يومها إمبراطورية لا تغيب الشمس عن أراضيها، وظلوا هناك 128 عامًا. فقد كان البحر الأحمر بحرًا عربيًا خالصًا بضفتيه إلى أن جاء الاستعمار الغربي المتحفز للقضاء على الخلافة العثمانية، يقضم أملاكها شرقًا وغربًا، فاحتلّ عدن وأصبح يمسك بمفاتيح باب المندب، إلى أن خرج الإنجليز في نوفمبر 1967، أي بعد خمسة أشهر من حرب حزيران من العام نفسه، واحتلال فلسطين كاملة، ومعها سيناء والجولان.

لا شيء يحول دون وقوع ذلك الاحتمال الرهيب، لا سمح الله. الأنظمة العربية عاجزة بل بعضها متواطئ، واليمن نفسه منقسم على نفسه تطحنه الحرب، وقال بعض من أهله المطالبين باستقلال الجنوب، إنهم مستعدون للتطبيع مع إسرائيل.

والغرب قد لا يستطيع أن تظل سفنه منتشرة طيلة الوقت في البحر الأحمر، وقد يرى أن من الأفضل له الوجودَ على البر سواء بقواته هو أو بقوات موالية له ونظام على شاكلة الأنظمة التي نرى. وإن حدث ذلك فيكون الطوق قد أحكم على رقابنا، فليس لنا على مضيق هرمز سيطرة فاعلة، ومضيق جبل طارق مفاتيحه لدى بريطانيا المستعمرة. وحين يتخيل المرء مثل هذا السيناريو، كما يقولون، تسري في بدن العربي قشعريرة.

هل احتلال أرض عربية أمر مستبعد؟ قبل سنوات قليلة فقط طالب الشعب السوري بالحرية فقُتِلَ وشُرِّد، واحتلت أرضَه دولٌ عديدة حتى يومنا هذا. والعراق قبله احتُلَّ وما زال، فحتى الدانمارك وربما ليختنشاين لها طائرات ترابط في العراق، الذي لا يستطيع أن يخرِج الأميركيين من أرضه، وما ذلك بغريب، فالذين يحكمونه اليوم جاؤوا في البدء على ظهر دبابة أميركية. هذا هو بعض تاريخنا القريب، وليس ثمة حاجة للتوغل بعيدًا في فصوله لتكوين قناعات واضحة.

كما ليس ثمة حاجة لذكر ما يحل بغزة اليوم وبالضفة الغربية، فالواضح أن النظام العربي أسقط فلسطين من حساباته القومية، والمؤلم أن الشعوب أسقطت من حساباتها كل اعتبار من اعتبارات النخوة الإنسانية وعزة والنفس والكرامة، في ضوء تفرجها اليوم على أشلاء أطفال غزة وهي صامتة مثل صمت المقابر.

تدرك إسرائيل هذا العجز العربي، وهي التي كانت حين أقامها الغرب على أرض فلسطين عام 1948 نتيجة لذلك العجز، كما هي اليوم أحد أسبابه. فهل تحبط مصر الرسمية، إذن، خطط إسرائيل المعلنة لاحتلال محور فيلادلفيا، ونشر قوات احتلال على طول حدود قطاع غزة مع مصر الوطن؟ لا يمكن للمرء أن يرجح ذلك في ضوء موقف مصر الرسمي الصامت مما قاله محامي إسرائيل أمام المحكمة الدولية.

وليس هناك أيضًا من المواقف السابقة لها، منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، ما يرجح أنها قد تخاطر وتنتهج سياسات أكثر حزمًا وجرأة، سوى ما قاله الرئيس الراحل محمد مرسي، رحمه الله، من أن مصر لن تترك غزة وحدها، وربما كان هذا أحد أسباب الانقلاب عليه، وسجنه حتى الوفاة.

على أن السؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه هو كيف ننفض عن أنفسنا هوان العجز؟ اسألوا مجاهدي غزة فعندهم الخبر اليقين.

 

المحتوى ذو الصلة