الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن: “المقاومة الطوفانية” حركة تحرر للإنسان والعالم

المصدر: الجزيرة نت

قال الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمن إن أبعاد “طوفان الأقصى” تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية للأمة إلى العالم كله، لأن الفعل المقاوِم بات يتطلب في زمن ما بعد الطوفان الانتماء إلى العالم.

وأضاف أستاذ المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، ومؤلف كتاب “روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية”، أنه لما ظهر أن الطوفان، من حيث كونه تجريفا للشر المطلق، هو السبيل الذي يوصّل إلى التحرر الأمثل، فقد لزم أن تكون “المقاومة الطوفانية” حركة تحررٍ للإنسان عامة أو حركة تحرير للعالم كله، حتى ولو بدت في الظاهر حركة تحرر لشعب مخصوص أو حركة تحرير لأرض مخصوصة، وفق تعبيره.

وفيما يلي نص الحوار:

• كيف تنظرون إلى عملية “طوفان الأقصى” في السياق الفلسطيني والإنساني؟

إن أول ما يستوقف الفيلسوف في “طوفان الأقصى” في سياقه الفلسطيني هو هذه التسمية نفسها؛ فلِمَ اختارت المقاومة الفلسطينية في غزة أن تُطلق على عمليتها اسم “الطوفان” ولَم تختر غيره؟ لا شك في أن حديث “الطائفة المنصورة” الذي أُشربت به قلوب رجالها كان له تأثير في هذه التسمية؛ فـ”الطوفان” لا يكون إلا من عمل هذه “الطائفة” متمثلةً فيهم، هذا عن الأصل الاشتقاقي؛ أما عن العلة لهذه التسمية، فمعلوم أن “الطوفان” يفيد معنى “التجريف الذي لا يترك وراءه شيئا”؛ فلنسأل ما حقيقة هذا الشيء الذي حمَلت هذه المقاومة أمانةَ تجريفه بالمرة بحيث لا تُبقي منه شيئا؟ لا يُمكن أن يكون هذا الشيء مجرد الاحتلال، ولا حتى مجرد الظلم، وإنما هو، على الحقيقة، “الشر المطلق”؛ فقد كان الناس يتصورون “الشر المطلق” مفهوما بعيدا، ولا يعتقدون تحققه، فإذا بهم اليوم يرونه رأي العين واقعا حيا؛ فقد شاهدوا “الصلاة” في بيوت الله تُقصف، و”البراءة” في الطفولة تُزهق، و”العافية” من المستشفيات تُطرَد، و”اللجوء” إلى المآوِي يُرهَب، وقس على ذلك ما شابَهه؛ رأوا بأمّ أعينهم احتضار كل قيم الخير التي خُلق الإنسان من أجلها؛ وليس “الشر المطلق” إلا مَشاهِد الموت الذي يأتي على كل القيم؛ وقد كانت المقاومة الفلسطينية في غزة سبّاقة إلى تبيُّن حقيقة هذا الشر، فسارعت إلى مواجهته بالقوة التي تدفع موبقاته، بل تنتزعه من أصله؛ لذلك استحقت هذه المقاومة أن تسمى “المقاومة الطوفانية”، تمييزا لخصوصيتها عن باقي أشكال المقاومة.

يبقى أن نسأل لِم أضافت هذه المقاومة “الطوفان إلى “الأقصى” ولَم تُضِفه إلى سواه؟ ما من شك أن مكانة “الأقصى” عندها تُحتّم هذه الإضافة، غير أن هذه المكانة لها وجوه عدة يختلف الأخذ بها بحسب السياقات والظروف؛ فـ”الأقصى”، في سياق ذكر التوجه في الصلاة، هو القبلة الأولى للمسلمين، بينما هو في الظروف الخاصة التي تحفُّ بالمقاومة الطوفانية هو، بالأساس، “المَسرى”، ذلك أن “الإسراء”، اصطلاحا، يستلزم التغلب على مادية الجسم بالكلية، مَثَلُه في ذلك مَثَل “العروج”؛ وهذا يعني أن روح “المُسرَى به” تتحرر من كل القيود بما يجعلها تنطلق في فضاء الملكوت اللامتناهي؛ لذلك، بات “المَسرى”، بالنسبة إلى هذه المقاومة، يدل على “مكان التحقق بالحرية القصوى”؛ وعليه، فإن كان الاسم التاريخي لهذا المكان هو “الأقصى”، فإن الاسم الظرفي له هو، بالذات، “المَسرى”؛ ولو أن هذه المقاومة لم تُسمّ عمليتها “طوفان الأقصى”، لاتخذت لها اسم “طوفان المَسرى” لدلالته على الحرية؛ ولعلّها حرصت على حفظ الاسم التاريخي، اعتبارا لشهرته؛ والدليل على ذلك أنها جعلت “تحرير” جميع الأسرى في سجون العدو أسبق مقاصد “الطوفان”، بل جعلته أول شرط في أي تفاوض معه!

ومن هنا، يتبين أن السياق الفلسطيني لطوفان الأقصى يفتح على السياق الإنساني من جانبين على الأقل؛ أحدهما، أن هذا الطوفان فيه من طوفان نوح عليه السلام نصيب، وهو “استئصال الشر من الأرض”، بحيث يتهيأ بفضله الإنسان من حيث هو كذلك ليتلقى قيما جديدة؛ والثاني أن “الأقصى” فيه من إسراء محمد عليه الصلاة والسلام نصيب، وهو “التحرر من قيود المادة”؛ فيكون “الأقصى” أو قل “المَسرى” آية دالة على تعميم القيم الجديدة على البشرية جمعاء، بحيث لا يحدُّها أي اعتبار مادي.

ولما ظهر أن الطوفان، من حيث كونه تجريفا للشر المطلق، هو السبيل الذي يوصّل إلى التحرر الأمثل، فقد لزم أن تكون “المقاومة الطوفانية” حركة تحرر للإنسان عامة أو حركة تحرير للعالم كله، حتى ولو بدت في الظاهر حركة تحرر لشعب مخصوص أو حركة تحرير لأرض مخصوصة، إذ المقاوم الطوفاني إنما هو الإنسان في صراعه مع الشر؛ ويؤيد ذلك التفاف العالم حول قضيته، ولا يرجع هذا الالتفاف، كما شاع بين جمهور السياسيين، إلى تعاطي العالم للرواية الفلسطينية للأحداث بقدر ما يرجع إلى كون هذه المقاومة أعادت بقوة الإنسان، حيثما كان، إلى فطرته الأولى، أي أعادته إلى القيم الأصيلة التي تنطوي عليها روحه، بدليل سرعة هذا الالتفاف حول قضيته وانخراط الفتيان فيه بكثرة، إذ الفتى يكون أقرب من سواه إلى الفطرة، فيسهل إحياؤها فيه.

• مع طوفان الأقصى، شهدنا مظاهر كثيرة لازدواجية المعايير الغربية، برأيكم هل يمكن أن نشهد تراجعا حضاريا متأثرا بهذا التراجع القيمي؟

ما أريد التنبيه عليه هو أن ازدواجية المعايير عند الغرب ليست مظهرا مستحدثا فيه، بل كانت ملازمة لحضارته منذ بدايتها، لأن هذه الحضارة بُنيت، أصلا، على مبادئ مادية تقرّر تفوُّقه على غيره من الأمم؛ وحيثما يوجد هذا الشعور بالتفوق، يوجد خطر تفضيل الذات على غيرها، وتقديم مصالحها على مصالحه بإطلاق؛ ولا يدفع هذا الخطر التمييزي إلا وجود “جذوة التعالي الروحي” في القلوب، هذه الجذوة الفطرية التي تختص بكونها تنزع أسباب التنازع على المصالح المادية، وتسوّي بين الناس كلهم في الحقوق والواجبات؛ والغرب ظل، عبر تاريخه الحديث، يفتقد هذه الجذوة المتعالية، بل أقام صرحه الحضاري على أساس إطفاء هذه الجذوة في القلوب لطغيان المصالح الدنيا على كل أحواله؛ غير أن ما يميز ازدواجية المعايير في حاضر تعامله مع طوفان الأقصى عن حالات أخرى لهذا الازدواج عنده هو أن حكامه فقدوا خُلق “الحياء” بالمرة، إذ يعلنون، بكل صفاقة، إنكارهم للحقائق الناصعة التي ينهض أفراد العالم كلهم شهودا عليها، فجمعوا إلى تكذيب الأحداث تكذيب الشهود؛ وحينها، لا نستغرب قسوة قلوبهم وذهاب إحساسهم، منسلخين بالكلية عن إنسانيتهم.

وعلى هذا، فإن التقهقر القيمي ليس شيئا طارئا على الحضارة الغربية، وإنما أسبابه مبثوثة فيها على الدوام؛ فهي حضارة، أصلا، متقهقرة قيميا لو قورنت بحضارة الإسلام، لأنها، كما ذكرت، خالية، ابتداء، من جذوة التعالي؛ وظل هذا التقهقر القيمي خافيا عن الأنظار لغلبة تعلُّق الناس بمظاهر التقدم المادي؛ لكن أبت الأقدار إلا أن تكون الصدمة العظمى التي أحدثها طوفان الأقصى هي التي تُبرز بوجه لم يسبق إليه تغلغُلَ هذا التقهقر في صلب هذه الحضارة المادية، بل أن تُبرز قبحه المطلق، ليكون هذا الطوفان آية ناطقة بلسان الملكوت بين أظهر الغرب.

• كيف تنظر إلى تحيز بعض مفكري الغرب خاصة ضد الشعب الفلسطيني في المقاومة والتمتع بحقوق الإنسان، رغم أن بعضهم كانوا يدافعون عن ضرورة تمتع جميع الشعوب بالحقوق نفسها؟

ما كنت لأستغرب من هؤلاء المفكرين انحيازهم، ذلك لأن ما يحقُّ أن نستغرب منه ليس مسايرتهم منطق حضارتهم، وإنما هو مخالفة هذا المنطق؛ فهم، في حكمهم على الفلسطينيين، إنما صدروا عن القيم التي تحكم حضارتهم والتي تجعل تقدُّم المصالح المادية معيار التفوق الإنساني، فهم من هذه الناحية متسقون في فكرهم؛ أضف إلى ذلك أن الغالب عليهم هو أن يأتوا بأفكار فلسفية مجرَّدة لا يلتزمون بأن تُصدِّقها أفعالهم إلا ما ندر، وهذا الانفصال بين أقوالهم وأفعالهم من شأنه أن يسمح لهم بأن يقولوا باستواء أفراد البشرية في الحقوق وفي الوقت ذاته أن يتخذوا من شعب فلسطين موقفا لا يقول بهذا الاستواء، قاصرين البشرية على شعوبهم الآخذة بتحضر لا جذوة فيه من التعالي الروحي الذي يزين أفراد هذا الشعب.

لكن ما يجهله هؤلاء المفكرون، وينبغي أن يعلموه متى أرادوا حفظ نسبتهم إلى التفلسف، هو أن البشرية، في الزمن الحاضر، جُمعت جمعا في الإنسان الفلسطيني كما تُجمع في الأنبياء وعظماء الرجال؛ فالإنسان الفلسطيني اليوم هو “إنسان العالَمِ” أو قل “الإنسان العالَم”، أو “الإنسان العالمي” بامتياز؛ وبيان ذلك من وجهين، أحدهما، أنه لا أحد بلغ مبلغ المقاوم الفلسطيني في التحقق بأسمى القيم الأخلاقية والروحية، إن تحملا للأذى أو تمسكا بالحق أو تصديا للباطل أو ثباتا في الميدان أو تحققا بالتضحية؛ وبهذا، يغدو الإنسان الفلسطيني نموذجا يُحتذى، ومعلوم أن النموذج في أي أمّة يقوم مقام الأمة؛ والعالَم هو الأمة التي أضحى الإنسان الفلسطيني نموذجا لها، فيصح أن يسد مسد العالَم. والوجه الثاني، لا يخفى أن الإنسانية مرت بأزمنة أخلاقية متعددة لاحقُها أكمل من سابقها، آخرُها الزمن الأخلاقي الإسلامي، فيكون أكملَها جميعا؛ والمقاوم الفلسطيني ينتمي إلى هذا الزمن كما ينتمي إليه كل إنسان وُجد بعد البعثة المحمدية، مسلما كان أو غير مسلم، بحيث يقع المعاصرون أنفسهم، أيا كانت عقيدتهم، تحت طائلة هذا الزمن الإسلامي، فيُسألون عن أخلاقهم كما يُسأل المسلمون منهم؛ ولما كان المقاوم الفلسطيني يرتقي أعلى مراقي الأخلاق التي تحدد الزمن الأخلاقي الذي هو فيه، فقد لزم أن يكون عالميا باعتبار انتمائه إلى عالمية هذا الزمن الإسلامي.

وعلى هذا، يكون هؤلاء المتفلسفة المنحازون ظلما إلى أعداء الإنسان الفلسطيني قد فاتتهم حقيقتان أساسيتان لا ينبغي أن تفوت أي فيلسوف، لأنهما تدوران على مفهوم “العالمية”، مع العلم بأن هذا المفهوم هو مبتغى كل فيلسوف إلى حد أنه يدعي التفرد بالاشتغال به؛ وأولى هاتين الحقيقتين الفلسفيتين هي أن المقاوم الفلسطيني عالمي من حيث اتصافه بالنموذجية؛ والحقيقة الثانية أن المقاوم الفلسطيني عالمي من حيث انتسابه إلى الزمن الأخلاقي الذي وُجد فيه؛ فالمتفلسف المعاصر الذي لم يتفطن لهذه العالمية الفلسطينية المزدوجة مشكوك في كمال تفلسفه، فما الظن بمن يجحد هذه العالمية، ناهيك عن الذي يدعي التنظير للأخلاق، بل التنظير للأخلاق العالمية، فلا شك أنه متفلسف متبع لهواه، أو بتعبير الفارابي، متفلسف “بَهْرج” حتى ولو وُجد من يُصدّقه! فهل يُعقل أن يَعمى عن هذه الحقيقة الجامعة، وهي أن كل إنسان في العالم له نسبة إلى الإنسان الفلسطيني، بموجب نموذجيته وأخلاقيته!

• هل ما حدث ينبئ ببداية الانفكاك عن الاحتلال الثقافي والقيمي والسياسي، وبداية عهد جديد للعالم العربي والإسلامي؟

إن ما جاءت به هذه “الطائفة” من المقاومين من “طوفان” عز نظيره، محوا لشرور الاحتلال، وتثبيتا لأسباب التحرر، لَيفتح الطريق لإمكاناتٍ للنهوض لا سابق لها؛ فلما كان هذا الطوفان يعيد الثقة المفقودة إلى الذات، ويحيي الذاكرة المجيدة للأمة، ويورّث الوعي الضروري بقوى الروح، فقد جمع أسباب إطلاق طاقات الإبداع، اجتهادا وتجديدا، لدى أبناء الأمة؛ وحينها، يبقى على هؤلاء أن يبادروا إلى الأخذ بهذه الأسباب قبل أن يتجند الاحتلال وأعوانه في الخارج وأتباعه في الداخل لتفويت هذه الفرصة التاريخية عليهم، رادّا لهم إلى ما كانوا عليه قبل الطوفان من فقدان الثقة الذاتية والذاكرة المميَّزة والوعي الروحي؛ وأيا كانت الكيفية المتبعة في الأخذ بهذه الأسباب، (هنا الأهم) يبقى أن هذا الطوفان يوجب البناء، في هذا التجديد للأمة، عربا ومسلمين، على أصلين طوفانيين: أحدهما، أنه “لا نهوض للأمة إلا بالتحقق بالمقاومة”؛ والثاني، أنه “لا مقاومة إلا مع التحقق بالانتماء إلى العالم”.

أما عن الأصل الطوفاني الأول، أي أنه “لا نهوض للأمة إلا بالتحقق بالمقاومة”، فما عانته الأمة، ممثلةً خير تمثيل بشعب فلسطين، من أشكال الاحتلال الطويل، سياسة واقتصادا وثقافة، جعل المقاومة فيها ترتقي من رتبة الفعل السلوكي إلى رتبة الفعل الوجودي، وهذا يعني أنه لا وجود للأمة إلا بالفعل المقاوم، بل يعني أنه لا حق للأمة في الوجود إلا بهذا الفعل؛ فقد باتت المقاومة، بالنسبة إليها، الطريق الذي به تحيا وتبقى؛ فليست المقاومة، في حق أمتنا، مجرد دفع المظلومية القانونية، وإنما هي تحصيل المشروعية الوجودية؛ لذلك، لا يمكن أن تكون هذه المقاومة مجرد عمل يُترك لاختيار الفرد أو لتقديره، وإنما هي معاملة يشترك فيها مجموع الأمة، دخولا فيها وتقويما لها.

وعليه، يتعين على مثقفي العهد الجديد الذي فتحه “طوفان الأقصى” أن يعيدوا التفكير في مفهوم “المقاومة”، ويؤسسوه على أصول جديدة، ويُنشؤوا من المفاهيم ما يعضّده، ويستخرجوا من حقائقه ما لم يكن يخطر على البال، ويبنوا من النظريات والأنساق الفكرية والسياسية ما يكون على قدره؛ فقد أظهر “طوفان الأقصى” أن هزيمة العدو تكون أشد وأنكى لو هُزم عقلُه وهُزمت أخلاقه، على خلاف ما ترسخ في الأذهان من أن المقاومة توجب أولا وقبل كل شيء إيقاع الهزيمة السياسية بالعدو؛ فـ”طوفان الأقصى” انتصر على عقل المحتل كما انتصر على أخلاقه، فتكون هزيمة العدو السياسية مجرد تابع لهزيمته العقلية وهزيمته الأخلاقية؛ ولما كان العقل والخُلُق هما الصفتين المحددتين لكلية الإنسان، كانت هزيمة العدو فيهما هزيمة لذاته بأسرها؛ ومثلُ هذه الهزيمة لذات العدو لا يمكن أن تُمحى من ذاكرته، فلا يستقيم له بعدها أمر، فيأخذ في دوام الانهزام، حتى الانقراض الكلي؛ وفي المقابل، فإن انتصار المقاومة بهذه الطريقة، أي عقلا وأخلاقا، هو انتصار لكلية ذاتها؛ ومِثلُ هذا الانتصار لا يمكن، هو الآخر، أن يمحى من ذاكرة الأمة، فلا يَعوجّ لها بعده طريق، فتأخذ في دوام الانتصار، حتى الانبعاث الكلي.

وأما عن الأصل الطوفاني الثاني الذي يجب البناء عليه، وهو أنه “لا مقاومة إلا مع التحقق بالانتماء إلى العالم”، فقد ظهر للعيان أن أبعاد “طوفان الأقصى” تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية للأمة إلى العالم كله، لا لأن آثاره سرت، بالفعل، في مجموع الإنسانية فحسب، بل لأن الفعل المقاوِم بات يتطلب أن تُزال هذه الحدود بالمرة، وأن يُنظر إليه على أنه فعل عالمي صريح مُلزِم لكل فرد من أفراد البشرية، حيثما حصل من بقاع الأرض وكيفما كانت الشرور التي يتصدى لها؛ لذلك، يتعين على المقاوم أن يعي ويوقن، وهو يأتي أفعاله، بأنه يتصدى لشرور لا تقتصر آثارها على وطنه، وإنما تَطال أقطار العالم كلها؛ ولا شك أن هذا الشعور سيزيد، بما لا يقاس، من طاقته النضالية، فضلا عن توسيع إمكانات إمداده.

ولعل هذه النتيجة أوجب في حال المقاوِم العربي منها في حال غيره، نظرا لأن النظام العربي، في جملته، أضحى مانعا للفعل المقاوم إلى حد أن هذا المنع أشبَه المنع الذي يقع من المحتل، حتى كأن هذا النظام “احتلال داخلي”؛ ويرجع ذلك إلى أسباب عدة قد تجتمع لدى بعض عناصر هذا النظام، وهي، كما هو معلوم، “الهوة السياسية بين الحاكم والمحكوم”، و”النخبة العسكرية المستولية على السلطة بالقوة والمشتركة في المصالح مع الجهات الاستعمارية”، و”النخبة المدنية التي استُلبت بقيم الثقافة الأجنبية والتي أُسندت إليها إدارة المؤسسات بتوجيه من هذه الجهات الاستعمارية”، وأخيرا، “مسلسل التطبيع” الذي أنهى البقية الباقية من الأمة؛ ولا سبيل إلى دفع هذا المنع الداخلي إلا باتخاذ المقاومة حالة حركية دائمة التوجه إلى العالم كله، شعوبا ومنظمات، نظرا لأن هذه الشعوب والمنظمات قادرة، بحكم وجودها في دول تحفظ الصلة بين الحاكم والمحكوم، على تصحيح آراء ومواقف ساستها، إذ هذا التصحيح السياسي من شأنه أن ينعكس على هذه المقاومة في الداخل بمزيد القوة، لا سيما وأنها تحمل توجها عالميا.

• لطالما كان الجدل حيّا بين القيم الأخلاقية والمصالح السياسية، فكيف حسَم “طوفان الأقصى” هذا الجدل؟

أول ما تجب الإشارة إليه هو التباس مفهوم “المصلحة”؛ فقد كان يدل في الاستعمال الإسلامي على معنى “المنفعة التي تعود بالصلاح على الإنسان”، بينما أضحى يدل في السياق المعاصر على “المنفعة التي تلبي مطلق الحاجة”؛ وشتان بين المعنيين: إذ إن المعنى الأول للمصلحة يتضمن بعدا أخلاقيا صريحا يجعل منها لفظا مرادفا للقيمة الأخلاقية، بينما المعنى الثاني للمصلحة لا يتضمن بالضرورة هذا البعد الأخلاقي، بحيث يجوز أن تكون المصلحة مباينة للقيمة الأخلاقية، هذا التباين الذي يبرز بأوضح صورة في فكر “ميكيافيل” وفيما يسمى بـ”الواقعية السياسية”؛ لذلك، كان استعمال لفظ “المصلحة” في هذين المعنيين المتضادين باعثا على تشويش الفكر لدى الناطق العربي؛ وكان الأجدر أن يُوضع للمعنى الثاني مصطلح مستقل خاص به، وقد يكون هذا اللفظ هو “الغرض”، لا سيما وأن الدول الاستعمارية باتت تستعمل مقابلاته في لغاتها للدلالة على فاسد أغراضها في المنطقة العربية كما في العبارة: “تهديد المصالح القومية”، فينساق الجمهور العربي، من حيث لا يشعر، إلى الاعتقاد بأن هذه الأغراض الاستعمارية مصالح مشروعة، إذ يضفي عليها، بحكم ثقافته الإسلامية، الصلاح الذي ليس فيها قط.

أما “طوفان الأقصى”، فقد انبَنى على مبدإ عدم التضاد بين القيمة الأخلاقية والمصلحة السياسية، بحيث لا جدل بينهما في سياقه، بل انبنى على مبدإ التداخل بينهما الذي ورثه عن ثقافته الإسلامية، وهذا التداخل يتخذ فيها صورة التضمن ذي الاتجاه الواحد؛ والمقصود بهذا التضمن هو أن المصلحة السياسية تكون تابعة دوما للقيمة الأخلاقية؛ وهذا يعني أن المقاوم الطوفاني يبني سياسته، بالأساس، على المعيار الأخلاقي، ويسخّر العمل السياسي لخدمة الأخلاق تسخير الوسيلة لمقصدها؛ إذ السياسة عنده عبارة عن تدبير من أجل التحرير، و”الحرية” قيمة أخلاقية عليا؛ ثم إن التدبير عنده عبارة عن تدبير للدنيا من أجل الآخرة، فيلزم أن يوجد، في أفق هذا التدبير، مقصد الشهادة، و”الشهادة”، هي الأخرى، قيمة أخلاقية عليا؛ وهكذا، فإن المصلحة السياسية، بحسب المقاوم الطوفاني، تكون موجَّهة على الدوام بقيمتين أخلاقيتين جامعتين هما: “الحرية” و”الشهادة”، فإما أن يتحرر، وإما أن يستشهد؛ فلولا كمال تحقق المقاوم الطوفاني بملابسة الأخلاق للسياسة ما كان ليُنجز ما أنجز من مآثر غاية في الإبداع.

وقد استطاع هذا المقاوم، بفضل تلبُّس عمله النضالي بالأخلاق، أن يُرِيَ العالم مشاهد السقوط الأخلاقي الذي تؤدي إليه مادّية الحضارة الغربية؛ فقد حمل العدوَّ الإسرائيلي على كشف صور لاأخلاقيته الفاحشة، استغراقا في الكذب والخداع والتضليل، وإيغالا في سفك دماء الأبرياء، وتدميرا لكل قيم الحياة، بل كشَف العورات اللاأخلاقية لدول الغرب، إذ هبّت كلها، وقد فقدت صوابها لهول ما أصاب هذا العدو، إلى مساندته بإطلاق، تَمدُّه بأفتك الأسلحة وتؤيده في فظائع جرائمه، مُضْفيَة عليها، بلا استحياء، وصف “الشرعية الدولية”، بل فضَح “النفاق المطلق” الذي اتصف به حكامها وبعض مثقفيها، وهم يزعمون حمل لواء التنوير في العالم.

ولما كان المقاوم الطوفاني إنسانا عالميا بحق، فقد نزل منزلة المنقِذ للعالم من هذا السقوط الأخلاقي غير المسبوق الذي ينزل به؛ ذلك بأن العالَم لا بد أن يجد في هذا المقاوم المعلّم الأمثل الذي يعينه على استرجاع الصلة المفقودة عنده بين الطرفين: “السياسة” و”الأخلاق”، إذ لا يسعه إلا أن يرى أن هذا المقاوم لم يكتف بأن يسلّم بهذه الصلة التي ورثها عن زمن ثقافي كانت فيه الحدود بين هذين الطرفين متداخلة، وإنما اشتغل، في الزمن الثقافي الحالي الذي اشتهر بالفصل بين الطرفين، ببناء منجَزه الطوفاني العظيم على هذه الصلة، مختبرا لقوتها ومتوصّلا إلى نتائج مبهرة؛ ولما أيقن العالَم بأن المقاوم الطوفاني خبير بهذه الصلة بقدر ما هو وريث لها، فقد بات يُبدي حاجته إلى أن يستعيد، هو نفسه، هذه الصلة المفقودة، لكن يأبى أن تحصل هذه الاستعادة على الوجه الذي تحققت به في ماضيه لِما ترتَّب على سابق استغلالها من مفاسد، وإنما يتطلع إلى أن تحصل على الوجه الذي تتحقق به الآن في العمل الحي لهذا المقاوم المتميز؛ ومن هنا، يتأتى للمقاوم الطوفاني أن يمارس جانبا من واسع عالَميته، معيدا الاعتبار، في المجال السياسي، للأخلاق بوصفها عنوان “الإنسانية” في تدبير العالم.

 

المحتوى ذو الصلة