المفكر الفرنسي أوليفييه روا: إسرائيل تعيش جهلا مقدسا

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

كان تواصله مع العالم العربي والبيئة الإسلامية إنسانيا قبل أن يكون فكريا، وعندما بدأ دراسة الإسلام السياسي والحركات الجهادية لم يكن مستشرقا أوروبيا “آخر” وإنما عالم اجتماع ومعرفة نأى بنفسه عن التوظيف السياسي لأطروحاته التي كانت ولا تزال تثير الجدل في العالمين الغربي والإسلامي على حد سواء.

ولد عالم السياسة الفرنسي الشهير أوليفييه روا (1949)، في لا روشيل غرب فرنسا، وعمل أستاذا في المعهد العلمي للدراسات السياسية في باريس قبل أن يصبح مدير أبحاث مركز البحوث العلمية ومدير دراسات المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية الفرنسي، ومستشارا في مركز التحليل والتوقع التابع للخارجية الفرنسية.

بدأ أوليفييه عمله في أفغانستان التي ذهب إليها صبيا عام 1969 عندما كان بالكاد قد أنهى دراسته الثانوية (الليسيه)، ذهب مترحلا ومتجولا في شوارع كابل ومستكشفا الحياة في مدن الشرق، ولاحقا درس آسيا الوسطى في مدن أوزبكستان وطاجيكستان العريقة، قبل أن يعود لباريس وينال دكتوراة الفلسفة، ويدرّس في عدة جامعات ومعاهد فرنسية.

قدم روا مؤلفات مهمة في علم اجتماع الإسلام والأديان ترجمت أغلبها للعربية، ومنها “الإسلام والعلمانية”، “الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة”، الجهاد والموت”، “عولمة الإسلام”، و”فشل الإسلام السياسي” وغيرها، واستضافت الجزيرة نت أوليفييه روا ليتحدث عن مستقبل الأديان والهوية والعلمانية، فإلى الحوار:
لماذا كانت دراسة الإسلام والظواهر الاجتماعية المرتبطة به مثيرة لاهتمامك منذ صغر سنك؟

لم يبدأ الأمر بدراستي للإسلام، بل بسفري إلى البلدان الإسلامية. عندما كنت في الـ19 من عمري، ذهبت إلى أفغانستان متطفلا كرحّالة، بعدها زرت إيران وتركيا أيضا. كان ذلك أول تواصل لي مع البيئة الإسلامية، وأود أن أقول إنه كان تواصلا إنسانيا أكثر مما كان فكريا. ثم عندما عدت إلى فرنسا، قررت أن أتعلم اللغة الفارسية حتى أتمكن من التحدث مع الناس في أفغانستان وإيران. وبعد ذلك صرت أسافر إلى بلدان الشرق الأوسط بأكمله. فزرت المغرب واليمن ومصر وسوريا والعراق ولبنان.

لذلك، قررت أن أحصل على شهادة جامعية في الثقافة والحضارة واللغة الفارسية. وفي الجامعة، درست مادة في علم الإسلام، منحتني لمحة حول ماهية الإسلام، وتاريخ العالم الإسلامي.

ثم قررت أن أعمل بعمق أكبر، عندما غزا السوفيات أفغانستان عام 1979. لذلك، قررت أن أصبح خبيرا في أفغانستان، ليس مجرد مسافر، ولا مجرد هاوٍ، ولكن باحثا يعمل بجدية في دراسة حركة المجاهدين الأفغان. وبقيت لـ8 سنوات أزور أفغانستان وإيران، وحينها بدأت دراسة الإسلام السياسي والحركات الإسلامية الجهادية، كما قال في حوار الجزيرة نت معه.

مضى حوالي 30 عاما على نشرك لكتاب “فشل الإسلام السياسي”. هل ما زلت ترى أن الإسلام السياسي فشل؟ وما هي دلائلك؟

في الحقيقة، نعم. ما أسميه فشل الإسلام السياسي هو استحالة إنشاء دولة إسلامية حقيقية تكون فيها الشريعة هي القانون الوحيد ويكون كل شيء فيها إسلاميا، بدءا من المؤسسات والتعاليم، وصولا إلى العلوم والمصارف والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية. هذا وصف للمدينة الفاضلة، ونموذج يوتوبيا يمثل الأمة الأولى، والمجتمع الأول في زمن الرسول محمد. ونظريتي هي أنه عندما نشيّد دولة ما، فإن السياسة هي التي تقرر ما هو مكان الدين بتلك الدولة. ليس الدين الذي يقرر السياسة، بل العكس.

وخير مثال هو الثورة الإسلامية في إيران. ففكرة أن الدولة ستكون إسلامية فعلية، طرح سؤال ما الإسلام؟ وما الشريعة الإسلامية؟ ومن يتحكم بالشريعة؟

وبعد انتخاب مجلس النواب، اشتكى كثير من رجال الدين من أن النواب لا يعرفون شيئا عن الإسلام. وقرروا إنشاء لجنة من الأوصياء تشرف على التدقيق الإسلامي في القوانين التي صوت عليها مجلس النواب، لكنهم يختلفون دائما. لقد كانت الأيديولوجيا هي التي قررت ما هو ديني في النهاية. لذلك أعتقد أنه لا يوجد شيء اسمه دولة إسلامية فحسب، بل هناك دولة دينية.

وصفت القرارات السياسية الأميركية بشأن ما يسمى “الحرب على الإرهاب” بالفوضوية، وذلك في كتابك “سياسة الفوضى في الشرق الأوسط”. هل تعتقد أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ما تزال تتسم بالفوضى؟

أعتقد أنها أقل فوضوية. وذلك لسبب واحد: أنهم ينسحبون. فكلما زاد تورطهم، زادت الفوضى. ظهر القرار الحقيقي بالانسحاب عندما قرر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عدم قصف الرئيس السوري بشار الأسد في عام 2013. تلك كانت بداية الجزر الأميركي في الشرق الأوسط. ثم غادروا أفغانستان والعراق. وهذا أفضل بالطبع.

وجودهم هناك كان كارثة لأسباب مختلفة. أحد الأسباب الرئيسية هو ما أسميه الاعتقاد بجوهرية الإسلام. لقد ظنوا أن قضية تطرف الجهاد هي جوهر لاهوت الإسلام، وأنه يتعين القيام بنوع من الإصلاح الليبرالي، والإصلاح الديني للإسلام. لقد اعتقدوا أن على أميركا أن تقيم الديمقراطية في الشرق الأوسط من خلال إنشاء دولة علمانية وحديثة وديمقراطية في العراق. ولمحاربة التطرف، اعتقدوا أن عليهم احتلال العراق. لقد كان كل ذلك غير منطقي، لأن الراديكاليين الإسلاميين لم يكونوا متجذرين في منطقة معينة بالشرق الأوسط. لذا فإن الحرب على الإرهاب كانت مبنية على الكثير من الافتراضات الخاطئة.
لقد أصبح الإرهاب مصطلحا فضفاض الاستخدام في العالم الغربي، ويسهل استخدامه عندما يكون هناك عنصر إسلامي يتعلق بحدث ما. هل تعتقد أنه يجب علينا إعادة تعريف الإرهاب فعلا؟

أشعر بالقلق أكثر فأكثر من استخدام مصطلح الإرهاب في العالم الغربي، فكل من يختلف مع الحكومة حاليا، يصير إرهابيا.

تقليديا، إذا تمكنا من التفكير في تعريف الإرهاب، فهو قتل المدنيين من قبل منظمات غير حكومية من أجل الضغط على الدولة. وهو تعريف ضيق. فمثلا ماذا عن حركات الحرب غير النظامية؟ وخير مثال على ذلك هو حرب الجزائر ضد الفرنسيين. إذ يستخدم الفرنسيون مصطلح الإرهابيين لوصف جبهة التحرير الوطني التي قتلت مدنيين عشوائيا لدفع الحكومة الفرنسية للتفاوض. ولقد نجح ما فعلته جبهة التحرير الوطني فعلا، لأن فرنسا قررت التفاوض.

بالتالي، إذا عرّفنا الإرهاب من خلال الوسائل المستخدمة في الحرب غير المتكافئة فحسب، يصير حكما قيميا.

ومن الناحية السياسية البحتة، يمكننا أن نرفض الوحشية في قتل المدنيين والتعذيب والاغتصاب وما إلى ذلك. ولكن من منظور سياسي، على المدى الطويل، يصير الأمر مأزقا ومسؤولية قانونية. المشكلة ليست في الوسائل التي تستخدمها الحركة المقاتلة، لكن فيما إذا كانت هذه الحركة قادرة على التفاوض سياسيا.

وطالما هناك أمر للتفاوض عليه، فيجب أن نكون حذرين بشأن استخدام مصطلح الإرهاب. الإرهابيون هم من لا يريدون التفاوض السياسي.

لذلك أتردد في القول بأن حركة حماس منظمة إرهابية. يمكن إدانة قتل المدنيين في عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لكن استبعاد حركة سياسية عسكرية بسبب الوسائل التي تستخدمها في القتال، ليس مفيدًا على المدى الطويل. يجب أن نفكر دائما بما هي وجهات النظر السياسية في صراع ما. وفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هناك وجهات نظر سياسية حتما، ولا يساعد استبعاد جهة فاعلة من الحوار لمجرد تسميتها بالإرهاب. فاستعمال هذا النوع من التصنيف لإقصاء وجهات نظر سياسية، هو خطأ سياسي.

في الثمانينيات قضيت سنوات في دراسة الظروف الاجتماعية لحركات القتال الإسلامية لفهم سياقاتهم.
مشددا على ضرورة فهم السياقات المختلفة التي تجعل كل حركة إسلامية مختلفة عن الأخرى. لكن يُلاحظ أن الرأي العام الغربي يضع جميع الحركات الإسلامية في سلة واحدة وكأنها تتماثل تماما. برأيك، ما الذي يجب على الجمهور الغربي معرفته من السياقات المختلفة لتشكيل رأي عام حول الحركات التي يصفونها بالإرهابية؟

تبدو فكرة تثقيف الرأي العام مثالية إلى حد ما، إذ يتشكل الرأي العام من خلال الأفكار الثقافية السائدة. كما أن هناك تناقضا بين التحالفات الجيوسياسية الحقيقية والطريقة التي يفكر بها الناس في هذه التحالفات.

في الواقع، يبدو أن أفكار الناس تتأثر بعاملين رئيسيين: ما يرونه في وسائل الإعلام وما يختبرونه شخصيا في حياتهم اليومية. وهذا التعقيد يجعل مفهوم الرأي العام إشكاليا، إذ غالبا ما يحمل الأفراد وجهات نظر متناقضة دون الشعور بالمسؤولية عنها. تنطوي الحياة الفعلية على مسؤوليات مثل العلاقات مع الجيران والأسرة والعمل، مما يجعلها أكثر تعقيدا بكثير من الفكرة المبسطة للرأي العام.

المشكلة في المناقشات حول الإسلام هي أنه يتم تصويره على أنه مشكلة، لكن هذا تفكير سطحي إلى حد كبير. إن التناقض الحقيقي يكمن بين تصوير العالم في وسائل الإعلام وبين حياة الناس الفعلية.

علاوة على ذلك، هناك فجوة آخذة في الاتساع بين المناقشات السياسية المجردة وواقع حياة الناس، والتي تفاقمت بسبب الإنترنت، مما خلق أزمة في الرابطة الاجتماعية. فعلى الإنترنت، يمكن للأفراد التعبير عن أي شيء، مما يسهم في الانفصال بين الفضاء العام المجرد وتعقيدات الحياة اليومية.

هل تعتقد أن لوسائل الإعلام الغربية دور بتعريف الناس بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية القادرة على تشكيل الحركات الإسلامية التي يسمعون عنها في الأخبار؟

هناك مشكلة كبيرة في وسائل الإعلام الغربية. ومع وجود وسائل إعلام وصحفيين جيدين بلا شك، إلا أنني أجد عموما أن وسائل الإعلام الأوروبية تميل إلى أن تكون ملتزمة تماما. لا يوجد سوى عدد قليل من المؤسسات الإعلامية التي تشارك في أبحاث وتحقيقات جوهرية حول الأحداث أو الحركات الاجتماعية.

يتطلب التحقيق في موضوعات مثل الحركات الشعبوية أو الأئمة المسلمين وقتا وجهدا طويلا، وغالبا ما يمتد لأسابيع. ومن المؤسف أن العديد من وسائل الإعلام تختار نهجا أسرع، يعكس فقط ما تعتقد أنه الرأي العام. ومن خلال القيام بذلك، فإنهم لا يعكسون المشاعر العامة فحسب، بل يسهمون أيضا بنشاط في تشكيلها. وهذا يخلق نوعا من الدورة الذاتية الاستدامة التي قد تكون إشكالية.

لقد عرّفت الجهل المقدس بأنه: رفض المؤمن الاعتراف بالثقافة السائدة قائلا: “سأعيد بناء حياتي وفق القيم الدينية فقط”. بأخذ ذلك بالاعتبار، مع العلم أن إسرائيل دولة مبنية على معتقدات دينية حيث تتزايد مساحة اليمين في الدولة الإسرائيلية. هل نستطيع أن نقول إن إسرائيل تعيش جهلها المقدس؟

نعم إلى حد كبير. كما أنه ليس من قبيل الصدفة أن تحظى إسرائيل الآن بدعم متزايد من الإنجيليين الأميركيين. فما هي القواسم المشتركة بينهما؟ إنها إعادة بناء الدين خارج التقاليد الثقافية.

هناك بالطبع تقاليد يهودية دينية وثقافية غنية جدا. فمثلا يهود أوروبا الشرقية، كان لديهم دين متجذر في الثقافة ولغة ومجتمع خاص بهم. يلاحظ الأمر نفسه مع البروتستانتية في الولايات المتحدة. حاليًا، هناك حركات في كل من العالمين اليهودي والبروتستانتي تؤكد خصوصيتها باعتبارها الدين الحقيقي، وتركز على “الولادة من جديد” وإبعاد نفسها عن الجذور التاريخية، التي تعتبرها سلبية.

ومن الجدير بالذكر أن بعض المجتمعات اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة، التي تأسست مؤخرا نسبيا في أواخر القرن الـ18، تبدو كأنها جديدة كليا لكونها منفصلة عن التقاليد اليهودية التي تعود إلى قرون مضت، كما لو أن الحاخام المؤسس يخلق حقيقة دينية جديدة. وعلى نحو مماثل، يروج المستوطنون، على غرار الإنجيليين في أميركا، لسردية مفادها بناء أرض مقدسة جديدة من الصفر، بالرغم من أن هذا تحريف تاريخي، فمثلا هم يطلقون أسماء توراتية على الأماكن لتبدو قديمة تاريخيا، بالرغم من أنها حديثة كليا.

في الجوهر، ما يظهر هو يهودية إسرائيلية ذات تطلعات عالمية، تهدف إلى الاستمرارية التاريخية وتثبيت نفسها بالأرض، لكنها في صميمها اختراع لتقليد مجتمع يهودي كان غائبا منذ ألفي عام. وتعكس هذه الظاهرة شكلا من أشكال الأصولية أو انفصال الدين الخالص عن التقاليد والثقافة.

انطلاقا من ذلك، كيف يمكن تفسير زيادة مساحة اليمين المتطرف في إسرائيل؟

بداية، هناك تحول ديمغرافي ملحوظ في المجتمعات الأرثوذكسية اليهودية المتطرفة، التي كانت أقل من 5% في الخمسينيات وارتفعت الآن إلى 20% على الأقل. في الوقت نفسه، هناك مفارقة في علمنة المجتمع اليهودي، إذ كلما زادت العلمانية، يصبح الدين أكثر وضوحا بسبب انفصال المتطرفين اليهود عنه. ويتزامن ذلك مع صعود الشعبوية والهوية القومية في المجتمع اليهودي، بما يوصف بـ”أسرلة اليهودية”، أي ارتباط الدين اليهودي بتشكل دولة إسرائيل.

ومن المظاهر الواضحة لهذا الاتجاه هو الفجوة المتزايدة بين السياسة الإسرائيلية والشتات اليهودي. قد لا يكون مصطلح “الشتات” مناسبا تماما لأنه أكثر دقة للشتات اليهودي، فهو ليس شتاتا إسرائيليا. على سبيل المثال، في نيويورك، غالبا ما كان للمهاجرين الإسرائيليين الجدد الذين يحملون جوازات سفر إسرائيلية تفاعل محدود مع المجتمعات اليهودية التقليدية. وهذه الظاهرة جديرة بالملاحظة بشكل خاص في برلين، حيث يستطيع المجتمع الإسرائيلي أن يعيش دون الرجوع إلى الماضي اليهودي، على الرغم من الاقتلاع التاريخي للمجتمعات اليهودية التقليدية على يد النازية.

ويلاحظ أن أولئك الذين يدعمون ويصوتون لشخصيات مثل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد لا يكونون بالضرورة متدينين أو من رواد المعابد. إذ ينسجم العديد منهم مع السياسات الشعبوية واليمين المتطرف وسياسات الهوية بدلا من أن يكونوا مدفوعين بعقيدة دينية معينة.

مؤخرا تحول اهتمامك من دراسة الإسلام في آسيا إلى دراسة المسيحية في أوروبا. ويلاحظ أن أوروبا تتجادل حول الهوية الوطنية، مع تنامي معاداة المهاجرين. برأيك، هل يشكل الإسلام تهديدا حقيقيا للقيم المسيحية في القارة؟

المسيحية متأصلة بعمق في التراث التاريخي والثقافي لأوروبا، فالكنيسة كانت أول مؤسسة أوروبية منذ العصور الوسطى. لكن الدين فقد دوره المركزي في المجتمع والسياسة مع ظهور الدول القومية في أوروبا وتحول الناس إلى أيديولوجيات أخرى نتيجة العلمنة. فتراجع الالتزام الديني في القارة، وتوقف الناس عن تعريف أنفسهم كمسيحيين، وتضاءل الحضور في الكنائس. وعلى الرغم من المناقشات حول الهوية المسيحية لأوروبا، فإن نزع المسيحية لا يزال مستمرا.

ومن ناحية أخرى، وصل الإسلام إلى أوروبا عبر هجرة العمالة، التي اتسمت في البداية لدى الأوروبيين بتصورات عرقية وعنصرية وليست دينية. ثم واجه الجيل الثاني من المهاجرين في الثمانينيات، الذين ولدوا في أوروبا، تحولا في المصطلحات بأوروبا أدى إلى وصفهم بالمسلمين. ومع الشعور بالتغريب، اختار العديد من هؤلاء الشباب التأكيد على هويتهم الإسلامية.

وقد أدى صعود الشباب المسلمين المتدينين في أوروبا، الذين يعرضون هويتهم الدينية في عصر العلمانية المتزايدة، إلى خلق توترات. أصبح ظهور الإسلام بشكل متزايد، منفصلا عن الاتجاه السائد نحو العلمنة، واضحا في التسعينيات. تزامن هذا التحول مع أزمة أوسع في العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، التي اتسمت بالصراعات في أفغانستان، والبوسنة، والشيشان، وظهور تنظيم القاعدة، والتي بلغت ذروتها في هجمات 11 سبتمبر.

وعلى الرغم من أن غالبية الشباب المسلمين غير مهتمين بالجهاد، فقد ظهر تصور في أوروبا يربط بين الممارسة الدينية المتزايدة والتطرف الإسلامي الأوسع. أدى هذا التصور، الذي غذته المخاوف الجيوإستراتيجية، إلى الاعتقاد الخاطئ بأن التطرف كان منتشرا بين السكان المسلمين. ومع ذلك، فإن الأدلة الإحصائية تناقض ذلك، وتظهر أشكالا متنوعة من المعتقدات والممارسات الدينية بين المسلمين.

غير أن التناقض الظاهر بين المساجد الممتلئة والكنائس الفارغة سبب تفاقم المخاوف، وخاصة بين شريحة كبيرة من السكان الأوروبيين، بما في ذلك أولئك الذين لا يعرفون أنفسهم كمسيحيين. يستغل العديد من القادة الشعبويين الأوروبيين، رغم أنهم ليسوا متدينين، مفهوم الهوية المسيحية لمقاومة الصعود الملحوظ للإسلام في أوروبا، أو لمنع المسلمين من أخذ مكانتهم كمواطنين. فالقضية الكبرى هي المواطنة.

بذكر الهوية، قلت أيضا: “إننا نشهد تفردا بالعقيدة وانفصالا للمجتمعات الدينية عن الهويات العرقية والقومية”، هل ترى فرقا بين الشرق والغرب بما يتعلق بتكوين الهوية؟

إن الاتجاهات العالمية في إضفاء الطابع الفردي على الإيمان واضحة، وتتجاوز الانقسام بين الشرق والغرب. استخدام الإنترنت، وخاصة منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتيك توك وتويتر، يعد موحدا عبر المناطق، مما يقلل الفجوة التي كانت موجودة في التسعينيات.

وبينما تستمر الاختلافات بين المجتمعات الإسلامية في الشرق وتلك الموجودة في المدن الغربية مثل لندن أو باريس، يرى تحول ملحوظ نحو الاستفسارات الدينية الفردية. فالأشخاص الذين يبحثون عن الفتوى، على سبيل المثال، يهتمون في المقام الأول بالمواقف الشخصية بدلا من الأسئلة العامة. فإضفاء الطابع الفردي على العقيدة منتشر على نطاق واسع، مما يعكس تأثير التحضر والعولمة.

بالنسبة للمستقبل، ما هو مشروعك البحثي الجديد بما يتعلق بالعالم العربي؟

حاليا أنا جزء من مشروع بحثي جماعي، يطرح سؤالا عن الثقافة العربية العالمية، التي تعززها دول الخليج من خلال الفعاليات التي تنظمها، والمهرجانات التي تقيمها، والموسيقى التي تنتجها، والكتب التي تنشرها. فدول الخليج جميعها منخرطة في دعم الثقافة العربية غير المرتبطة سياسيا.

على سبيل المثال، كانت الثقافة العربية في الستينيات والسبعينيات مرتبطة بوضوح بالقومية العربية، وفي الثمانينيات والتسعينيات، كان هناك نوع من أسلمة الثقافة العربية.

أما الآن، فيسعى عدد من الجهات الفاعلة للعب دور في مفهوم الثقافة العربية غير السياسية. وسؤالنا هنا: أيمكن لهذا التطور في الثقافة العربية الجديدة أن يكون وسيلة لعولمة الشرق الأوسط؟ أم هو مجرد تراث شعبي يلعب على التمثيلات الثقافية دون أن يكون له محتوى يذكر؟ أم أنه يتماشى مع وعي عربي جديد حول كون المرء منتميا لدولة عربية ما؟ ونحتاج إلى حوالي 4 سنوات للوصول إلى إجابة.
لقد منحت حياتك للأسئلة، وأمضيت سنوات بمحاولة العثور على إجابات. بعد كل ذلك الجهد والوقت، ما السؤال الذي لم تجد له إجابة إلى الآن؟

أعتقد أن السؤال الذي لم أعثر على إجابته هو: ما هو تأثيرنا الفردي على الأحداث؟ هل نحن مجرد متفرجون يتأملون ما يجري فحسب، يستمتعون به أحيانا وينقلونه أحيانا أخرى؟ أم أننا بصفتنا مثقفين جزء من تطور المجتمع والعالم. أظن أنه لدي وقت قليل للعثور على إجابة. لكن من يدري؟ ربما أجدها.

 

المحتوى ذو الصلة