المقابر الجماعية بغزة.. هكذا تفنن الاحتلال بتعذيب ضحاياه قبل قتلهم

[[{“value”:”

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

لم تنته قصة المئات من المواطنين المحاصرين في داخل ومحيط مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، منذ أربعة أشهر، على النحو الذي كانوا يسعون إليه؛ حيث بدأت القصة باستغاثات وصرخات من نساء وأطفال ومرضى وأطقم طبية، وانتهت بتحوّلهم إلى جثث متحللة وهياكل عظمية دخل مقابر جماعية، وما بين البداية والنهاية أحداث بشعة وجرائم مروّعة ارتكبتها القوات النازية الإسرائيلية بحق ضحايا من المدنيين بمباركة أمريكية وصمت دولي.

لم تتمكن طواقم الدفاع المدني طيلة ما يزيد عن 4 أشهر من تلبية آلاف الاستغاثات من المواطنين في خانيونس بالقرب من مجمع ناصر الطبي؛ حيث كانت قوات الاحتلال تحيط بآلياتها وجنودها وقناصاتها كل شبر في المدينة، وفي هذه الأثناء قامت قوات الاحتلال بجرائم حرب لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلا؛ إذ تم اكتشاف بعضها بينما بقيت جرائم أخرى لم تُعرف طبيعتها بعد بسبب تحلل أجساد الشهداء وتغير معالم أصحابها.

مطالب بتحقيق دولي

وقد أثار اكتشاف عدد من المقابر الجماعية في غزة دعوات من مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان وآخرين لإجراء تحقيق دولي، خاصة فيما يتعلق بالمقابر المكتشفة في مجمعي “ناصر” و”الشفاء” الطبيين. فيما شاهد مراسلو “رويترز” يوم الاثنين عمال طوارئ وهم يستخرجون جثثا من تحت أنقاض مستشفى ناصر، وتحققت “رويترز” من لقطات لحفر مقابر بالقرب من مستشفى الشفاء منذ نوفمبر/ تشرين الثاني.

وقالت رافينا شمداساني، المتحدثة باسم مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، يوم الثلاثاء، إنه يتعين إجراء تحقيق للتثبت من عدد الجثث، لكن “من الواضح أن جثثا كثيرة اكتشفت”، مضيفة: “كانت أيدي بعضهم مقيدة فيما يشير بالطبع إلى انتهاكات خطيرة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، ويتعين إخضاع هذا لمزيد من التحقيقات”.

جرائم متكررة

المرصد الأورومتورسطي لحقوق الإنسان، طالب بتحرك دولي فوري للتحقيق في الجرائم المرتبطة بوجود مئات المقابر الجماعية والعشوائية في قطاع غزة، والتي تضم جثامين آلاف الضحايا الفلسطينيين منذ بدء الهجوم العسكري الإسرائيلي المتواصل منذ 7 تشرين أول/أكتوبر 2023.

وقال الأورومتوسطي إن حجم المقابر وعدد الجثامين التي تم انتشالها والتي ما تزال لم تُنتشل بعد مُفزع ويستوجب تحركًا دوليًّا عاجلاً، يشمل تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة على نحو عاجل، للتحقيق في ظروف إقامة هذه المقابر وملابسات مقتل الضحايا الذين دفنوا فيها، خاصة في ظل وجود دلائل حول تعرض العديد منهم للقتل العمد والإعدامات التعسفية والخارجة عن نطاق القضاء بشكل مباشر وهم معتقلين ومقيدي الأيدي.

وأشار الأورومتوسطي إلى أن انتشال فرق الدفاع المدني مئات الجثامين من مقابر جماعية في مستشفى “ناصر”، وما سبق ذلك من انتشال مئات الجثامين من مجمع “الشفاء” الطبي نموذج لهذه المقابر التي تشكل صفحة سوداء في سجل الانتهاكات التي اقترفتها القوات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وأفاد الأورومتوسطي بأن فرقه وثقت ظهور المقابر الجماعية والعشوائية منذ تدشين أول مقبرة جماعية في مجمع الشفاء الطبي في 15 تشرين أول/أكتوبر 2023، بعد تعذر نقل القتلى والموتى إلى المقبرة الرسمية في مدينة غزة لوجودها شرق غزة، ولاحقًا توالى إنشاء هذه المقابر حتى زاد عددها الإجمالي عن 140 مقبرة، بعضها يضم المئات من الجثامين.

وأضاف الأورومتوسطي أنه من ضمن المقابر الجماعية التي وثقها في شهري تشرين ثانٍ/نوفمبر وكانون أول/ديسمبر الماضيين؛ المقبرة العشوائية الأولى في حي الدرج وسط مدينة غزة، والتي حُفرت على أرض لعائلة “المصري” في شارع “الصحابة” في مدينة غزة، ومساحتها نحو 500 متر، ويُقدر عدد الجثامين المدفونة فيها بـ150 على الأقل.

وكذلك المقبرة العشوائية الثانية في حي “الدرج”، حفرت على أرض بشارع الاستقلال (القوس) قرب مفترق “الشعبية”، وتبلغ مساحتها نحو ألفي متر، ويقدر عدد الجثث المدفونة فيها بأكثر من 200.

وبيّن الأورومتوسطي أن غالبية الجثامين المنتشلة حديثًا كانت إما في الشوارع أو في بنايات بسيطة مكونة من طابق واحد، في حين أن هناك صعوبات كبيرة في انتشال جثامين القتلى من أسفل المباني متعددة الطوابق.

اكتشاف الجريمة

وفور انسحاب قوات الاحتلال من مدينة خانيونس، توجهت أطقم الدفاع المدني بالتنسيق مع الإدارة العامة للأدلة الجنائية والتوجه لحرم المجمع؛ حيث تم رصد 3 مقابر، الأولى أمام المشرحة، والثانية خلفها، والثالثة شمال مبنى هند الدغمة، وهي عبارة عن مقابر جماعية تكدست بها جثامين الشهداء، فيما توجد مؤشرات لشبهات تنفيذ إعدامات ميدانية بحق جزء منهم أو شكوك بممارسة التعذيب الجسدي على جزء آخر، بينما هناك شكوك أخرى بدفن عدد منهم أحياء.

طواقم الدفاع المدني انتشلت من المقابر الجماعية بخانيونس 392 جثة، منها 165 جثة تم التعرف عليها بنسبة 42%، و227 جثة مجهولة لم يتم التعرف عليها بواقع 58% ويرجع السبب في ارتفاع نسبة الجثث المجهولة إلى أن جيش الاحتلال قام بتغيير مظاهر العلامات الخاصة بالتعرف على الجثث وقام بتشويهها واستخدم أكياسًا تعمل على سرعة التحلل.

وعقب توثيق كافة المناطق والتحركات السابقة لفتح المقابر، شرعت الطواقم، في فحص عمق الرمال -التي زاد عمقها عن 3 أمتار- وصولًا للجثث، ثم إزالة الرمال عنها، لتكتشف تكدس الجثث فوق بعضها، ورصد تغيير الأكفان للعديد منها قبل دفنها، واستبدالها بأكفان بلاستيكية ذوات ألوان سوداء أو زرقاء ذات حرارة مرتفعة، مما يثير الشكوك في تعمد تسريع عملية التَّحلُّل بهدف إخفاء الأدلة على الجرائم الإسرائيلية.

مشاهد بشعة

سبعة أيام، استغرقتها طواقم الدفاع المدني في البحث والكشف عن الجثامين، رصد خلالها تكبيل أيدي بعض الشهداء بمرابط بلاستيكية، وارتدائها أبرهول أبيض، استخدمه الاحتلال كملابس للمعتقلين في مجمع ناصر الطبي، وتوجد علامات إصابة بطلق ناري بالرأس، مما يثير الشكوك على إعدامهم وتصفيتهم ميدانيًا.

كما وجدت بعض الجثث مربوطة الأيدي، والبطن مفتوح ومخيط بطريق تخالف الطرق الاعتيادية لخياطة الجروح في قطاع غزة، مما يثير شبهات حول اختفاء بعض الأعضاء البشرية، بالإضافة لوجود جثة أحد المواطنين يرتدي ملابس عمليات، وكذلك تم رصد جثمان طفلة مبتورة اليد والأرجل وكانت تردي ملابس غرفة العمليات مما يثير شكوك حول دفنهم أحياء.

من جانبه أكد “الأورومتوسطي” أن جثث الضحايا التي انتشلت تبين أنها متحللة، وجزء منها كانت عبارة عن أشلاء وأجساد ممزقة وأخرى دون رؤوس بعد دهسها بالجرافات الإسرائيلية.

ووثق الفريق الميداني للأورومتوسطي استخراج جثامين لبعض المرضى، بدليل وجود قسطرات بولية أو جبائر التي كانت ما تزال متصلة بجثامينهم وقت استخراجها، فضلًا عن وجود ملفات طبية خاصة بالجرحى والمرضى، دفنت معهم واستخرجت من حفرتين في مجمع الشفاء الطبي.

وذكر أن غالبية الجثامين المنتشلة كانت بدأت تتحلل نتيجة طول المدة، وبعضها كان واضح أنه تعرض للنهش من القطط والكلاب، بعدما أعاقت القوات الإسرائيلية طوال الأشهر الماضية انتشالها.

وفي هذا الصدد، أفاد الطبيب “معتصم سعيد صلاح”، عضو لجنة الطوارئ الصحية في وزارة الصحة، للأورومتوسطي بأنه عُثر بعد انسحاب القوات الإسرائيلية على 30 جثة دُفنت في مقبرتين داخل مستشفى الشفاء خلال حصار المستشفى، إحداهما أمام قسم الاستقبال والطوارئ والأخرى أمام قسم الصناعية.

وذكر “صلاح” أنه تم تحديد هوية 14 جثة منهم فقط؛ حيث كانت غالبية الجثث تعود لمرضى أو جرحى كانوا في المستشفى لم تُقدم الرعاية الصحية اللازمة لهم.

جريمة حرب

وبموجب اتفاقات جنيف لعام 1949 التي وقعت عليها إسرائيل، يتعين على أطراف نزاع ما اتخاذ كل التدابير الممكنة لمنع أي عبث بجثث الموتى. ويدعو القانون الدولي الإنساني العرفي إلى احترام الموتى، بما في ذلك واجب منع العبث بالقبور وضمان التعرف على الرفات البشرية ودفنها بشكل لائق. ويحظر القانون الدولي الإنساني أيضا التشويه والتدنيس وغير ذلك من أشكال عدم الاحترام للموتى، ويجب على الأطراف اتخاذ تدابير لحماية مواقع الدفن، ومن بينها تلك التي تحتوي على رفات أعداد كبيرة من الموتى.

وتعقيبًا على ذلك، شدد الأورومتوسطي على أن وجود المقابر الجماعية يعد دليلًا قاطعًا آخر على ارتكاب جرائم خطيرة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة وانتهاك حقوقهم، بما في ذلك حقهم في الحياة، وفي عدم التعرض إلى الاختفاء القسري، وفي المعاملة الإنسانية، إلى جانب ما يخص الحقوق الأخيرة للأشخاص المتوفين والمرتبطة بالتعرف الفردي عليهم، ومعاملة رفاتهم معاملة كريمة، وكفالة حقهم وحق ذويهم في دفنهم باحترام وبشكل لائق، وطبقًا لشعائر دينهم، ودفنهم بمقابر فردية، واحترام هذه المقابر، وتمييزها بطريقة تمكن من الاستدلال عليها دائمًا.

وطالب الأورومتوسطي المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل للكشف عن جميع المقابر الجماعية التي حفرها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وتحديد مواقعها، واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لمنع قوات الجيش الإسرائيلي من نبشها أو تدنيسها أو تدميرها، أو نهب الجثامين منها، أو تشويهها، أو معاملتها معاملة مهينة أو معاملة حاطة بكرامة هؤلاء الضحايا بعد قتلهم أو موتهم.

كما طالب المجتمع الدولي بإجراء تحقيقات دولية مستقلة فورية بالجرائم المرتبطة بوجود مقابر جماعية، بما في ذلك جرائم القتل غير القانونية التي تم ارتكابها ضد الضحايا الذين دُفنوا وأخفيت جثامينهم فيها، وجمع كافة الأدلة المرتبطة بهذه الجرائم، واتخاذ كافة التدابير للحفاظ على هذه الأدلة لضمان عدم ضياعها، مما قد يسهم في إفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب.

ودعا المرصد الأورومتوسطي كافة الجهات الدولية المختصة بالتعاون والمشاركة في تحديد هوية الجثامين التي دفنت في هذه المقابر الجماعية ممن لم يتم التعرف عليهم حتى الآن.

وأكد على الحاجة إلى تحرك دولي عاجل لإدخال آليات خاصة وفرق متخصصة لرفع ركام المنازل والمباني التي قصفتها قوات الجيش الإسرائيلي، وانتشال آلاف الجثامين لآخرين ممن قضوا تحتها منذ بدء الهجوم العسكري في 7 تشرين أول/أكتوبر أول الماضي.

ودعا الأورومتوسطي إلى تشكيل ضغط دولي حاسم على إسرائيل لتأمين عمل الأشخاص والطواقم العاملة في إزالة هذا الركام، بما في ذلك طواقم الدفاع المدني، بالإضافة إلى الكشف عن مصير آلاف المفقودين من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين من قطاع غزة ممن تحتجزهم قوات الجيش الإسرائيلي، بمن في ذلك من ارتكبت بحقهم جرائم الاختفاء القسري والقتل والإعدام غير القانونية في السجون ومراكز الاعتقال الإسرائيلية.

وأكد أن تقديراته تشير إلى وجود أكثر من 13 ألف فلسطيني في عداد المفقودين تحت الأنقاض، أو قتلى في مقابر جماعية عشوائية، أو أخفوا قسرًا في سجون ومراكز اعتقال إسرائيلية، وبعضهم تعرض للقتل داخلها.

ولم ينشر الجيش الإسرائيلي حتى الآن أي معطيات حول ظروف قتل هؤلاء الأسرى والمعتقلين، كما لم تتمكن حتى الآن أي جهة مستقلة من التحقق والتعرف على ظروف مقتلهم، ولم يتم حتى الآن إخراج جثامينهم أو تحديد هوياتهم أو إعادة رفاتهم، أو حتى تبليغ عائلاتهم.

وشدد الأورومتوسطي على ضرورة وجود تحرك سريع لانتشال الجثامين، محذرًا من أن استمرار بقاءها بالشكل الحالي ينذر بنشر المزيد من الأوبئة وستكون له تداعيات خطيرة جدًا على الصحة العامة والبيئة، وهي أمور بدأت تلمس منذ عدة أشهر.

وأبرز المرصد الحقوقي أن جريمة الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين أول الماضي لم يسلم منها الضحايا حتى بعد قتلهم، وسط تواطؤ دولي مستهجن.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة