براعة “إسرائيل” في صناعة الذرائع

[[{“value”:”

جاء حادث ضرب صاروخ لـ “مجدل شمس” في هضبة الجولان المحتلة ليضيف إلى “إسرائيل” (فلسطين المحتلة) رصيدًا جديدًا في صناعة “الذرائع” التي برعت فيها منذ إنشائها عام 1948، وحتى اللحظة الراهنة، وصارت واحدة من الأدوات الرئيسية لتسويق الحرب والسياسة والصورة، بل وجني مكاسب سريعة، قد تكون مساعدات مالية غربية، أو تزويدًا بالسلاح والذخيرة.

في هذا الحادث، ورغم نفي حزب الله أن يكون قد ضرب ملعب كرة قدم بالجزء المحتل من الجولان فقتل وأصاب دروزًا يتمسكون بتبعية الهضبة لسوريا، وتقديمه دلائل سياسية وأخلاقية بل وفنية من الزاوية العسكرية على أنه لم يفعل ذلك، فقد سارعت “تل أبيب” لتجعل من الحادث فرصة للاستمرار في حرب لا يريد لها بنيامين نتنياهو أن تنتهي، لأن مصلحته تقتضي هذا، وهو الذي يعد في طليعة المسؤولين في تاريخ إسرائيل صناعة للذرائع.

ابتداء فإن القواميس العربية تعرف “الذريعة” بأنها “ما يتوسَّل به المرء كي يُخْفي سببًا حقيقيًّا لعمله.” أو هي “وسيلة وسبب مصطنع لتحقيق هدف ما”. وقد عرف الفقه الإسلامي مبدأ “سد الذرائع” بوصفه تصورًا مسبقًا، يقصد به “قفل باب ما يعلل به لتبرير الإثم والمعصية، بغية قطع الطرق المؤدية إليهما”. فيما تربط القواميس والمعاجم الفلسفية الذرائعية بالنفعية أو البراغماتية، وهي من قبيل “الأدلة الفاسدة” أو “البراهين المعيبة” التي تقع في باب “المغالطات المنطقية”.

نشأت “إسرائيل” أساسًا على ذريعة محمولة على استدعاء مغلوط للتاريخ، وتأويل فاسد للنصوص الدينية، ثم راحت تصنع ذرائع عدة للاستيلاء على مدن وقرى وبلدات الفلسطينيين وأرضهم، بعد تهجيرهم قسريًا عنها أو إخضاعهم تمامًا لسلطان الاحتلال، حتى خلصت لها أرض أعلنت عليها دولتها، وتوالت عليها اعترافات الدول والمنظمات الأممية.

ليس هذا فحسب، بل امتد العدوان بالذريعة إلى خارج فلسطين فوجدناه ماثلًا في قيام “إسرائيل” يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956 بغزو منطقتي شرق قناة السويس وصحراء سيناء ثم قطاع غزة، كي تمنح القوات البريطانية والفرنسية ذريعة، تنضم بمقتضاها إلى الحرب بعد يومين، فيما عرف بـ”العدوان الثلاثي” على مصر.

هذه الذريعة كانت تخدم بالأساس خطة سياسية وعسكرية وضعتها الدول الثلاث في اجتماع سري انعقد في بلدة سيفر بفرنسا بين ممثلين عن بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، قبل بدء التحرك العسكري الإسرائيلي بأسبوع واحد، وكان هدفه غير المعلن هو إطاحة حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد قيامه بتأميم قناة السويس.

عادت “إسرائيل” إلى استخدام الذريعة مستغلة قرار عبد الناصر بغلق مضيق العقبة لتشن حرب يونيو/ حزيران 1967، رغم أن هذا القرار لم يكن يقصد به الرئيس المصري وقتها إعلان حرب، أو التمهيد لها، حسبما دلت على ذلك التصريحات التي جاءت على لسانه خلال جريان الحرب وعقبها، والوثائق التي كشف عنها فيما بعد. وضربت إسرائيل العراق عام 1981 بذريعة تعويق امتلاكه سلاحًا نوويًا.

النهج نفسه اتبعته “إسرائيل” في كل ضرباتها المتوالية ضد الفلسطينيين ولبنان وسوريا، وظهر هذا جليًّا قبيل حرب يوليو/تموز 2006 ضد حزب الله. فقد تذرعت “إسرائيل” بالعملية التي قام بها الحزب في 12 من الشهر نفسه لأسر جنديين إسرائيليين، وشنت حربًا كاملة على لبنان، كانت قد حضّرت لها بالفعل، منذ اضطرارها إلى الخروج من جنوب لبنان في عام 2000 لا سيما بعد أن تأكد لها إخفاق المحور الأميركي بالمنطقة في نقل لبنان من “محور الممانعة والرفض” إلى “محور التبعية والتطبيع”، وهو وعد كانت واشنطن قد قطعته لإسرائيل بعد احتلال العراق، والتهديد السافر لدول المنطقة.

لا تخفى هذه الذرائعية الإسرائيلية على اللبنانيين، فقد سبق أن تحدث وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل عن هذا الأمر في 28 سبتمبر/أيلول 2018 في معرض ردّه على نتنياهو حين زعم في كلمته أمام الأمم المتحدة وجود أدلة على دعم إيران لحزب الله في جعل صواريخه دقيقة التوجيه، وأن إسرائيل “ستكافح” إيران في لبنان، حيث قال باسيل: “إسرائيل تختلق من جديد الذرائع لتبرر الاعتداء، وأنها من على منبر الشرعية الدولية تحضّر لانتهاك سيادة الدول”.

ولم يخلُ العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة في أعوام؛ 2008 و2014 و2021، وأخيرًا في حرب “طوفان الأقصى” من ذرائع، حيث أمعنت “إسرائيل” في الحرب الراهنة في صناعة الذريعة من خلال الدعاية الفجة التي مهدت بها للحرب بإطلاق أكاذيب عن حرق الأطفال واغتصاب النساء، خلال الهجوم المباغت الذي شنته المقاومة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول على المستوطنات في غلاف غزة.

ولا تقتصر هذه الذرائعية الإسرائيلية على الجوانب العسكرية، إنما تمتدّ إلى الاقتصاد أيضًا. فها هي وزارة الاقتصاد في السلطة الفلسطينية تتهم عام 2013 إسرائيل بأنها توظف “الذرائع” لإجبار المُصَنِّع الفلسطيني على شراء المواد الخام من شركاتها، عبر خلق سلسلة من التعقيدات القانونية والإدارية، والتشديدات على مداخل المدن في الضفة الغربية وقطاع غزة، إن أراد شراء المواد الخام أو مستلزمات الإنتاج من دول عربية، وهي مسألة ترصدها تقارير ومؤشرات دولية، منها تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد” في تفسيره لأسباب تراجع معدلات نمو الاقتصاد الفلسطيني.

ومنذ أن دخل حزب الله إلى الحرب بضربات محسوبة وفق ما يسميها “قواعد الاشتباك”، و”إسرائيل” تريد توسيع الرد، ليصير حربًا شاملة، لا سيما بعد توعك جيشها في قطاع غزة، لكن الإدارة الأميركية كانت ترفض دومًا هذه الرغبة الإسرائيلية، فيما كان يفهمها كثيرون في الغرب على أنها مجرد “هروب إلى الأمام” يريده هذا الجيش المتعثر، ومحاولة لإطالة أمد الحرب يريدها نتنياهو وحلفاؤه في الحكومة.

جاءت حادثة “مجدل شمس” لتضع الرتوش الأخيرة على الذريعة الإسرائيلية الجديدة، التي تمت المسارعة في ترجمتها إلى موافقة على شنّ حرب على لبنان، بعد دعايات وشكايات إسرائيلية، لا ترمي منها إلى تبرير الحرب فقط، بل استعادة جزء من الصّورة القديمة التي جُرحت وشرخت إثر إفراط الجيش الإسرائيلي في القتل والحرق والتّدمير بقطاع غزة.

هكذا تشكّل الإدارة بالذريعة جزءًا أصيلًا من السلوك العسكري والسياسي والاقتصادي الإسرائيلي، حيث تتكئ تل أبيب على أن الذريعة تنطلق من حقيقة ما ولو صغيرة أو ضئيلة أو خافتة، وتنفخ فيها وتسوقها بألوان فاقعة من الدعاية، وهي مطمئنة إلى أن هناك من يغطي عدوانها ويبرره، أو غير عابئة بانكشاف أمر الكذب الذي يسكن ذرائعها، مادامت قد حققت أهدافها، حتى لو كان في ذلك انتهاك تامّ للقانون الدولي.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة