توحش وفظاعة تحت اسم الحضارة والتقدم.. كيف حررتنا غزة من زمن الأسر الغربي؟

إنّ الإنسان ليخجل من نفسه، وهو يجلس أمام شاشة التلفزيون، أو أي شاشة من شاشات الأجهزة الذكية ليتابع تحليلات المحللين والخبراء؛ لما يجري في غزة من تشريد وتهجير وإزهاق لأرواح الأبرياء من الأطفال والنساء والمسنّين.

هذا الشعور بالخجل مصدره الإحساس بالعجز، ليس العجز عن الفهم والاستيعاب لما يحصل، بل العجز عن الفعل والحركة والتأثير في مجريات الأحداث.

وهل من شيء مخجل أكثر من وقوف العالم بأسره عاجزًا عن أن يفرض وقفًا لإطلاق النار وقصف المدنيين العزل بالقنابل من السماء؟ كنا نحسب أنَّ البشرية قد قطعت أشواطًا في التحضر، وأن عالمنا قد أقَرَّ أعرافًا قانونية ومنظومة أخلاقية لا تسمح بالإبادة الجماعية للشعوب وبمشاهد التطهير العِرقي والتهجير الجماعي، حتى جاء العدوان الإسرائيلي على غزة ليثبت لنا أنَّ هذه البشرية تبلغ اليوم القاع في تدني المروءة والانحطاط الأخلاقي.

إن ما يحصل في غزة اليوم من فظاعة يُسائِل الضمير الإنساني أكثر من كل الأحداث الفظيعة عبر التاريخ. فلم يسبق للبشرية أن عاينت- مثلما تعاين اليوم- مجازرَ إنسانية على المباشر.

كانت هذه المجازر في العصور السابقة تصل الإنسان في صيغة أخبار، والأخبار تحتمل الصدق، كما تحتمل الكذب، كما أنها قد تكون عرضة لمبالغات اللسان، وهذا ما قد يفسر التباس المواقف والتردد في الأحكام. غير أننا اليوم- ونحن نعاين بالصوت والصورة فظاعة ما يقع في غزة- لا نملك فسحة للتأويل أو التدقيق في المصادر والأخبار؛ فإما أن نقبل بفظاعة ما يجري في غزة في زماننا، أو نرفضها.

وإننا نحسب أن التعاليم السماوية والقوانين البشرية لا تقبل بأي مُسوِّغ- مهما كان عقليًا- تبريرَ ما يحصل في غزة من جرائم شنيعة في حق الإنسان.

ولهذا تجدنا نتساءل عن طبيعة العصر الذي ننتسب إليه، وكيف يسمح بمثل هذه الجرائم؛ أهو عصر الحداثة، أو ما بعد الحداثة، أم عصر جديد لم تنكشف أسراره بعد ولم تتجلَّ ملامحه؟ غزة تسائلنا: “إلى أين نحن ذاهبون؟”.

يرى البعض أننا اليوم نخرج من مرحلة ما بعد الحداثة لندخل زمنًا جديدًا يرتسم فيه أفق حضاري جديد. ومن هؤلاء من يميل إلى تسمية المرحلة الزمنية الجديدة مرحلة “ما بعد ما بعد الحداثة”، على الرغم مما تتسم به هذه التسمية من ركاكة.

ومنهم من يفضل لفظة ( Metamodernity / Metamodernism )، وهم يحملون على (Meta) معنى “ما فوق” أو “ما وراء” عوض معناها الأصلي الذي يفيد “ما بعد” في اللغة اليونانية، مثلها مثل ( Post ) اللاتينيَّة.

بينما أنا أقرأ كتاب “هانزي فرايناخت” (Hanzi Freinacht) عن المجتمع المُصغي (The Listening Society)- هذا الكتاب الذي يتضمن محاولة جادة لوصف ملامح المجتمع “ما وراء / ما فوق حداثي”- وجدتني أتساءل: هل غزة معنية بمثل هذا الكلام؟. فكان الجواب: نعم، غزة معنية بمعرفة تحت سقف أي زمن هي اليوم تُباد؛ أهو زمن الحداثة، أو ما بعد الحداثة، أو ما فوق الحداثة؟

إن غزة تُباد في مرحلة انتقالية، ما بين زمن أثبت إفلاس منظومته العقلية والأخلاقية، وهو زمن ما بعد الحداثة الذي تم فيه تفكيك الحداثة؛ وبين زمن جديد يقول المنظرون له: إنه سيجمع بين حسنات التراث والحداثة، وما بعد الحداثة فيرتقي بالإنسان إلى درجة أعلى في الإنسانية، كما يسمح بتحقق ما ظل هذا الإنسان يحلم به على امتداد التاريخ.

من سمات مجتمع ما وراء أو ما فوق الحداثة، أنه مجتمع يتوسل بالأدوات التكنولوجية لتحميل كل المحتويات والأخبار والمعاني، سواء من الأزمنة القديمة أو الجديدة، سواء من هنا أو من هناك؛ كما أنَّ من سماته كذلك بسط ما يجري حول العالم أمام أنظار العالمين.

وكأننا بالأدوات التكنولوجية تمكّنُنا من النفاذ إلى كل الأعماق، عمق التاريخ وعمق الواقع، كل شيء أصبح مرئيًا منظورًا. وهذا يحملنا على الاعتقاد بأن ساحة الجريمة ستضيق أمام توسع ساحة الفضيلة، وأن زماننا لن يتّسع لجرائم مثل الجرائم التي تشهدها غزة.

مع كامل الأسف، إنّ تفاعل العالم مع أحداث غزة يثبت لنا أنّ حالنا في الزمن المُنتقَل إليه، ليس أفضل من حالنا في الزمن المُنتقَل عنه.

صحيح أنَّ صور الإبادة الجماعية في غزة أصبحت تملأ كل الشاشات؛ غير أنه لا يقل صحة كذلك أنها صور عارضة، لا تكاد تستقر في الوعي أو المخيال حتى تتلوها صور أخرى، صور أجساد عارية، أو لقطات من مباريات كرة القدم، أو مستملحات ومضحكات، أو معلومات علمية، أو مشاهد مسلية. وكأننا بصور الإبادة تصبح جزءًا من صور أخرى تمهّد وتعدّ المشهد العام؛ لتلبي رغبة الإنسان في الاسترسال في تقليب النظر فيما حدث ويحدث في كل الأزمنة والأمكنة.

ليس الزمن المنتظر أرحم بغزة من الزمن المنظور، إنما هو امتداد لأزمنة الإنسان، هذا الإنسان الذي سمته التجبّر والطغيان. إن الحداثة، وما بعد الحداثة، وما فوق الحداثة، هي مجرد مسميات تخفي نزعة التسلط والاستبداد والاستعباد.

إن صراع غزة اليوم من أجل البقاء، هو صراع البشرية كلها من أجل التحرر من سطوة هذا الإنسان المتسلط المستبد الميال إلى استعباد الآخرين، وإخضاعهم بالقهر، وقوة السلاح.

لا يسعني في هذا المقام إلا أنّ أردد عبارة الراحل “كينث وايت” الداعية إلى الخروج من “طريق الغرب السيّار”. يؤكد وايت من خلال هذه العبارة على أن الأزمة أكبر من أن تُحَلّ بمجرد الانتقال من حداثة إلى ما بعد الحداثة، ثم إلى ما بعد ما بعد الحداثة، وكأننا ندخل في حكم من يطلب الاستراحة من شيء مألوف باللجوء إلى شيء مستجدّ.

إن تخليص المجتمعات من الأزمة التي تتخبط فيها اليوم يقتضي إنسانًا آخر، غير إنسان القوة المادية الغاشمة، الإنسان المغرور بتفوقه التقني، المنجحر في البُعد الواحد.

تحضرني في هذا السياق لفظة أخرى كان يرددها على أسماعنا كينث وايت، في معرض حديثه عن الإنسان الذي يجب أن نَتَشَوَّف إليه، كان يقول: إننا في حاجة إلى (Postman)؛ بمعنى ساعي البريد، أو، بالمعنى المجازي، ذلك الإنسان الذي يحمل إلينا رسالة؛ عوض (Postman)، بمعنى الإنسان الذي يأتي ليخلف إنسان الحداثة، كما يراد لما بعد الحداثة أن تخلف الحداثة.

إن أحداث غزة تعيد ترتيب علاقاتنا بذواتنا وبالآخرين، وتدعونا للخروج من أسر الزمن الغربي الذي بلغ فيه التحالف الأميركي-الإسرائيلي المنتهى في اللجوء إلى القوة والتنكر للقيم الأخلاقية التي تنضبط بضابط “التقوى”؛ أي بقوة أخلاقية يجدها الإنسان في نفسه؛ كي يكبح جموح قوته المادية عن التنطّع والمبالغة في التدمير والتخريب.

لقد تحوَّل هذا النوع من الإنسان- الذي أفرزه الزمن الغربي، الإسرائيلي- الأميركي- إلى آلة لا ينهاها الحياء عن دفن الأطفال أحياء. وفي هذا إيذان بنهاية الإيمان، وتألّه الإنسان، وبلوغ القمة في العدوان والطغيان.

لا شك في أن الإفلاس الأخلاقي- الذي يتجسد في التدمير الممنهج لأسباب الحياة في غزة- سيجعل الكثير من الناس- من مختلف الأجناس والأعراق، بمن فيهم الكثير من الغربيين- يخرجون أفواجًا من زمن تألّه الإنسان المادي، باتجاه أفق زمني آخر، زمن أخلاقي- ديني.

هناك دلائل كثيرة تؤشر على أن العالم اليوم ماضٍ في الانقسام بين فسطاطَين: فسطاط يتوسل بالعقل الإنساني “المتنور” لتبرير إبادة الآخرين؛ وفسطاط يتمسّك بالأخلاق للحفاظ على النفس البشرية. لم يعد في وسع المرء أن يقف على الحياد.

لقد جاءت أحداث غزة لتصفعنا فتوقظنا من أحلام الزمن الغربي الذي ظلت تهفو إليه قلوب العالمين. إننا نركن إلى الاعتقاد بأن مظاهر التدمير الشنيعة المقترفة باسم الحضارة والعقل والتنوير بلغت درجة كبيرة في القسوة والعنف والحمق والجنون، حتى إنها أصبحت في عيون الناظرين عنوانًا على التوحش وقلة العقل والظلامية.

لقد أشكل على المرء ما أصبح يراه من سلوك أهوج يصدر من أناس يدعون الانتساب إلى الحضارة والديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان، حتى إنه لم يعد يعرف لهؤلاء المدعين وجهًا يقرؤُه.

بعد أحداث غزة صار الغرب- بمعناه السياسي، المؤسساتي، الإعلامي، العسكري- يصغر في عيون شعوب الأرض، وخصوصًا في عيون الشعوب العربية والإسلامية، حتى وكأنه لم يعد شيئًا، بعد أن كانت هذه الشعوب تراه عظيمًا.

 

المحتوى ذو الصلة