جرائم الاحتلال في مستشفى الشفاء وحبل الكذب القصير

[[{“value”:”

مثّلت الجريمة الوحشية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في مستشفى الشفاء في مدينة غزة، والمنطقة المحيطة به، ذروة جديدة في طبيعة جرائم الإبادة الجماعية التي يمارسها.

وبعد أن دمّر الاحتلال أجزاء كبرى من المستشفى قبل أكثر من شهرين، واعتقل مديره وعدة عاملين فيه وأخضعهم للتعذيب الوحشي، وبعد أن كُشفت أكاذيب الاحتلال عن استخدامه مركزاً لقيادة كتائب الشهيد عزّ الدين القسام، وبعد أن عجز ممثلوه عن تقديم دليل حقيقي واحد على صحّة مزاعمهم، وبعد أن أعاد أبطال القطاع الطبي والصحي تشغيل المستشفى الذي شكّل ملجأ لجرحى ومدنيين كثيرين، عاد الاحتلال ليشنّ هجمة بربرية شرسة، ليس فقط ضد المستشفى، بل وضد الأحياء المحيطة به.

ما زال مستشفى الشفاء مُحاصراً منذ 13 يوماً. وحسب تقارير وزارة الصحة، أعدم الاحتلال مئتين من الملتجئين إليه، وأكثر من مائةٍ من المقيمين حوله، واعتقل أكثر من ألف من النازحين، ثم أجبر من تبقّوا من النساء والأطفال بالقذائف والرصاص على الرحيل جنوباً، وأشعل النار في مرافق عديدة في المستشفى.

ولم تقتصر عمليات القتل والتدمير على المستشفى نفسه، بل امتدّت إلى أحياء بكاملها حوله، في عملية انتقام وحشية ومجازر إبادة رهيبة، فبعد أن حوصر آلافٌ من العائلات لاثني عشر يوماً من دون ماء أو طعام وفي حالة رُعب رهيب من صوت الرصاص والقذائف التي لا تتوقّف، لجأ الاحتلال مجدّداً إلى قصف بيوت العائلات بطائرات F16 وبصواريخ مدمّرة أبادت عائلات بكاملها. والعائلات التي أبيدت ليست مجرّد أرقام، بل تمثل آباء وأمهات وأطفالاً وأخوة وأخوات وأجداداً وجدّات لكل منهم قصة وحياة، وبعضهم من الأطفال لم يعيشوا حياتهم بعد. ومنهم عائلة النونو التي أبادت صواريخ الطائرات الإسرائيلية 16 فرداً منها، وعائلة أبو ديّة التي أُحرق أفرادها حتى الموت داخل منازلهم التي أشعل الاحتلال النار فيها، وعائلة الزبدة التي دفن أفرادها تحت الأنقاض من دون أن يستطيع أحد الوصول إلى جثامينهم، وعائلة حسّونة، وعائلة الجندي، وعائلة أبو حصيرة التي فقدت 23 شهيداً، وعائلة اللولو التي أُبيد 16 فرداً منها.

جرحى ومصابون يزحفون محاولين الوصول إلى المستشفى المعمداني أو إلى مركز جمعية الإغاثة الطبية، حيث لا وجود لسيارات إسعافٍ بعد أن دمّرها الاحتلال

وجرّ الاحتلال مئات من المعتقلين إلى عمارة الوحدة التي حوّلها إلى مركز تحقيق وتعذيب. ولم يقتصر الأمر على التعذيب بل تجاوزه إلى تنفيذ الإعدامات الميدانية، إذ أفاد شهود عيان بأن قوات الاحتلال أمرت تسعة من المعتقلين من مخيم الشاطئ بمغادرة العمارة والذهاب إلى بيوتهم، وما إن بدأوا المغادرة والسير مبتعدين، حتى أطلقت قوات الاحتلال النار عليهم وأعدمت ثمانية منهم ميدانياً، بينما نجح التاسع في الهرب لينقل المعلومات عما حدث.

ولعل أكثر المشاهد إيلاماً كانت رؤية جرحى ومصابين يزحفون محاولين الوصول إلى المستشفى المعمداني أو إلى مركز جمعية الإغاثة الطبية، حيث لا وجود لسيارات إسعافٍ بعد أن دمّرها الاحتلال. وقال أحد المحاصرين من العاملين في القطاع الطبي إنه حوصر وعائلته المكونة من 19 فرداً داخل بيتهم 11 يوماً، وكان عليه أن يوزّع قطرات الماء القليلة المتوفرة بين أفراد العائلة، وعانوا جميعاً من المجاعة، والتوتر الرهيب المرافق للقصف المتواصل، وبعد أن قصف بيتهم، واستشهد اثنان من عائلته، قرّر استغلال انشغال دبابات الاحتلال عن بيتهم، بالخروج مع عائلته والركض بعيداً عن الموقع المحاصر. وما آلمني وفطر قلبي قوله إنه طلب من أفراد عائلته أن يركضوا ولا يلتفتوا إلى الخلف، وإن سقط أحدهم ألّا يحاولوا العودة لمساعدته، لأن ذلك سيعني موت الجميع، وقال إنه، باعتباره ربّ العائلة، ركض خلفهم جميعاً، وهو يحسب الثواني حتى وصلوا إلى مكان آمن.
هل هناك ما هو أكثر إجراماً وإمعاناً في الظلم من وضع أم وأب أو ابن في حالٍ يعجزون فيه عن تقديم العون لابنتهم أو ابنهم أو أمهاتهم وآبائهم عندما يسقطون صرعى برصاص الاحتلال… وقد قال هذا الرجل لي إنه اكتشف في اليوم التالي لخروجه من بيته أنه فقد في عشرة أيام 33 كيلوغراماً من وزنه.

من سيرمّم الآلام الجسدية والنفسية والجروح الغائرة التي سبّبتها جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والعقوبات الجماعية عديمة الإنسانية؟

لا تستطيع كل أكاذيب الاحتلال أن تبرّر الجرائم الوحشية التي يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني وضد المدنيين على وجه الخصوص. وبعد انكشاف أكاذيب الاحتلال عن اغتصاباتٍ لم تحدُث، لجأ إلى تعذيب فلسطيني لإجباره على الاعتراف باغتصابٍ لم يقم به، ولكن ذلك الكذب أصبح مكرّراً ومكشوفاً ومفضوحاً بشكل مقزّز.

واليوم تتراجع بعض دول الغرب، التي صدّقت أكاذيب الاحتلال عن وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين (أونروا)، وقطعت المساعدات عنها، عن قراراتها، وتعيد هذه المساعدات، ولكن بعد أن أحدثت أزمة عميقة للوكالة، وهي تعرف جيداً أن دوافع هجوم إسرائيل عليها محاولة تصفية ما تمثله من حقوق للاجئين الفلسطينيين.

ورغم إقرار الولايات المتحدة بعدم صحّة الأكاذيب ضد الوكالة، قرّرت وقف تمويل ما لا يقل عن ثلث ميزانية الوكالة حتى عام 2025. فيما يشكّل خطراً داهماً على أهم وكالة دولية قادرة على إيصال المساعدات وإنقاذ شمال غزّة من المجاعة التي بدأت فيه. ويفرض ذلك على جميع الدول، وخصوصاً العربية والإسلامية، التقدّم لسد العجز الذي تزيد قيمته عن رقم تافه بالنسبة لميزانياتها الضخمة.

حبل الكذب قصير، ومهما بلغ الاحتلال في أكاذيبه، فإنها تنكشف الواحدة تلو الأخرى. ولكن من سيعيد الحياة إلى 39 ألف امرأة وطفل ورجل استشهدوا برصاص الاحتلال وقصفه؟ ومن سيرمّم الآلام الجسدية والنفسية والجروح الغائرة التي سبّبتها جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والعقوبات الجماعية عديمة الإنسانية؟

“}]] 

المحتوى ذو الصلة