حربهم كلهم.. لا حرب نتنياهو

قَصْرُ هذه الحرب على مخاوف نتنياهو الشخصية وأهدافه السياسية؛ نوع من الاستسهال المفضي حتما إلى رؤية قاصرة جدّا، ومضرّة جدّا.

الخلافات في الأوساط السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية معلومة بما يغني عن الحديث عنها الآن، وهي بالضرورة لا بدّ وأن تتمدّد إلى مشهدية الحرب، من جذورها السابقة على الحرب، إلى أبعادها الشخصية، وما يصعد على ذلك من محاولات لتصفية الحسابات أو الاستثمار السياسي الداخلي في الحرب أو محاولة السيطرة على الحرب في مساراتها وفي الرؤية الكلّية لها، لكن ذلك كلّه، أبدا، لا يعني أنها حرب نتنياهو وحده، أو حرب الصهيونية الدينية المتحالفة معه.

هذه حربهم كلّهم؛ حرب الجنرالات الذين بات مستقبلهم المهني في قلب العاصفة، بعد أن صار سجلّهم العسكري في قبضة العار، وحرب المؤسسة العسكرية والأمنية التي يستند إليها المجتمع الاستيطاني الصهيوني الإحلالي في التئامه وثقته بإمكان بقائه في هذه البلاد ووسط بيئة معادية لوجوده المهين لكلّ ما هو أخلاقي أو معقول. وحرب هذا شأنها حتما لن تكون أقلّ دمويّة، لا لتحقيق أهداف استراتيجية فحسب، بل وللانتقام أيضا، أهداف وانتقام يتفاحش إلى ما يكافئ قوّة الضربة التي تلقاها النموذج الصهيوني، النموذج على مستوى الوعي، والنموذج على مستوى الممارسة، لترميم الوعي الصهيوني الذاتي نفسه، ثمّ لاصطناع نموذج جديد في وعي الآخر من الفلسطيني إلى العربي إلى العالمي؛ بأنّ “إسرائيل” لم توجد لتبقى فحسب، بل ولتبقى منيعة قادرة على الانتقام المنفلت؛ من كلّ من يتجرأ على نموذجها!

في الأثناء قل ما تشاء عن النموذج من حيث العنصرية، ومن حيث الصدمة؛ لكون الضربة جاءت من الفلسطيني/ العربي، الذي يُفترَض، بحسب الوعي الصهيوني، أنّه أدنى درجة وأحطّ كفاءة من أن يتمكّن من هذا التعالي الخلّاق على الذي رأى نفسه دائما العنصر البشري الأعلى باستحقاق أصلي!

ليست المشكلة فقط في كون الصهيوني تنبّه إلى أن البقاء في هذه البلاد مكلف، وقد تكون كلفته فوق الاحتمال، فأراد سريعا تخليص وعيه مما صار أكثر قوّة وحضورا وكثافة فيه؛ لأوّل مرّة بمثل هذه الدرجة من الوضوح المفزع، فأراد أن يعكس فزعه على الفلسطينيين هلعا وندما ومن خلفهم على العالم كلّه، ولكنه أيضا ينتقم لتصوّره المهشّم عن تفوقه ودنوّ خصمه الفلسطيني/ العربي.

حرب مسعورة، ممسوسة بشيطان الانتقام الجزع، تلفّهم كلّهم، مجتمعا وجيشا وأمنا وساسة، وخلافاتهم وسطها لا تطال مبدأ الحرب، ولا تناقش مقاديرها الدموية، ولا تدور حول نطاقات الإبادة ومستويات المحو الكامل. وذلك كلّه، أي المحو، يستند لأيديولوجيا راسخة، مهّدت للقيام الصهيوني بسياسات التطهير العرقي، سواء بالتهجير أم بالقتل.

فما الجديد وما المستغرب في أن تنفلت الآلة الإسرائيلية إلى هذا المدى من الإزاحة السكانية والحضرية المتعطشة إلى الدم الطاغي على ركام المساكن، في سياق تحقيق المحو الكامل للفلسطينيين، بعد تلك الضربة التي طالت عمق النموذج للوعي الصهيوني؟!

لكن هل هي حرب “إسرائيل” وحدها، مجتمعا وجيشا وأمنا وساسة؟! أم هي أوسع، و”إسرائيل” فيها اليد الباطشة، ومرتكز الفعل والانتقام؟!

ينبغي أن يكون الأمر قد حُسِم من جهة كونها حرب أمريكا، بالقدر الإسرائيلي نفسه أو بما يفوقه، وبالنحو الذي ذكرناه في مقالة سابقة، عن كون “إسرائيل” وكيلا إمبراطوريّا للمركز الإمبراطوري الذي قلبه واشنطن، وها هي تصريحات كلّ مؤسسات الدولة الأمريكية، وآخرها الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي، تغطي المذبحة بالحماية الكاملة، وبالأكاذيب المكشوفة، إلى درجة تسويغ قتل المدنيين ونفي تعمّده!

وإذا كان هذا محسوما وواضحا، بما يجعل الإسهاب فيه حشوا، فيجب بعد ذلك أن يتوقف التحليل الذي يفسّر المواقف العربية بالتخاذل أو الجبن، أو يسعى لعقلنتها بتلمّس أسباب سياسية لها يمكن أن تُفهم حتى ولو لم تُقبل!

التفسير الوحيد للمواقف العربية هو التواطؤ الكامل، والانخراط الكثيف في المذبحة الإسرائيلية، وليس ثمّة حاجة للاستدلال على ذلك بما هو صارخ ينادي على نفسه بكونه جزءا من مشروع المحو والإبادة، كتكدّس قوافل الإغاثة في الجهة المصرية خلف معبر رفح، وقد مرّ ما يقترب من الشهر على القمّة العربية/ الإسلامية، التي انعقدت في الرياض، متأخّرة أصلا، ثمّ لم يُنفّذ شيء من قراراتها الهزيلة! وغير بعيد عن ذلك استقبال رئيس الكيان الإسرائيلي أخيرا في دبيّ في مؤتمر المناخ، الذي كان من قرارته؛ إنشاء صندوق لتعويض الدول الأكثر تضررا من العواصف والجفاف بسبب التغير المناخي! والفلسطيني في غزّة ملاحق بالنار والعطش والجوع والمرض! ليس ذلك إلا إمعانا مقصودا في التخلّص من الفلسطيني معنويّا في طريق التخلّص منه ماديّا.

ليس عجزا ولا قلّة حيلة.. أيّ عجز هذا الذي يطلق ذباب الدولة الخليجية الكبيرة في منصة X وتيك توك لتحطيم الضحية، والتشفّي منها، وتمنّي الهزيمة للفلسطينيين، واتهام الفلسطيني في اللحظة نفسها ببيع أرضه لعدوّه وجنايته على نفسه بـ “مغامراته غير المحسوبة” أو “عمالته لإيران”!؟

وإذا كانت القنوات الممولة من الدولة إيّاها، وصحفها، وعدد من أدعياء الثقافة والمشيخة الدينية فيها، يعلنون هذه المواقف، فكيف بالمتستر بالاسم المستعار!؟ ومن سخرية القول التذكير بأنّنا لا نتحدث عن دولة ديمقراطية، بل عن دولة قد يُحكَم فيها بالإعدام على صاحب تغريدة لم تَرُق لسبب غامض لوليّ الأمر! وإذن فهي سياسة مقصودة، مما يجعل الموقف صريحا في الاصطفاف مع الصهيوني في حربه على الفلسطينيين في غزّة.

لقد أعطت صبيحة 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فرصة للنظام الإقليمي العربي لتحسين موقفه وتعزيز فرص نفوذه ولو من موقع التبعية، ولكنّه أبى، ثم جاءت المذبحة لتبسط له فرصة استظهار الشرف والمروءة ولو تصنّعا ورياء، فأبى إلا الضدّ الكامل، بالاصطفاف الفعلي في الخندق الإسرائيلي.

ليست هذه نظرية مؤامرة، ولا تنفيس غضب، بل حقيقة كاملة. الحرب حربهم كلهم، حرب “إسرائيل” كلّها، وأمريكا، ثم كلّ أتباعها، من الرتب العليا في التبعية، إلى أدناهم رتبة وأحطهم منزلة!

 

المحتوى ذو الصلة