عندما تصبح إسرائيل خاصرة رخوة في الاستراتيجية الأمريكية

في السابع من أكتوبر، ولأوّل مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يتمكن طرف من إنزال الهزيمة بإسرائيل منذ نشأتها في العام 1948؛ فحركة حماس وعلى يد نحو ألفٍ من مقاتلي القسام اخترقت حدود الكيان ونقلت المعركة في عقر داره، وتمكّنت من إنزال هزيمة مدوّية في فرقة غزة المسؤولة عن حماية الجزء الجنوبي من الكيان المحتل، وهي الفرقة الأكثر خبرة وتدريباً والمدجّجة بكل أنواع الأسلحة والتكنولوجيا وأدوات الذكاء الاصطناعي.

أثبتت حماس بأنه يمكن هزيمة إسرائيل، ما أحدث صدمة عميقة لدى الجميع، ليس لدى الاحتلال وداعميه فحسب، وإنما في وعي الأمّة العربية والإسلامية المشوّشة والمتشكّكة بإمكانية هزيمة المحتل الذي هو انعكاس لقوة الولايات المتحدة الأمريكية والمنظومة الغربية المهيمنة على السياسة الدولية.

عِظَم الحدَث وما أحدثه من أثرٍ نوعي واستراتيجي، دفع البيت الأبيض والرئيس الأمريكي بايدن منذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى، لاتخاذ قرارات عاجلة واستثنائية لإنقاذ إسرائيل، أحد أهم قلاع الغرب في الشرق الأوسط، بعد انكسار هيبتها وجدار ردعها، والشعور تالياً بالخطر الوجودي على هذا الكيان الذي تمّ زرعه وإنشاؤه منذ 75 سنة، لإشغال المنطقة وشعوبها واستنزافها بأزمات لا نهاية لها، لتبقى رهينة السياسات الأمريكية.

القرارات التي اتخذتها واشنطن وتل أبيب، ولا سيما إعلان الحرب على حركة حماس لسحقها وإبادتها من الوجود سياسياً وعسكرياً، ومن ثم تهجير الفلسطينيين عن أرضهم، كانت قرارات سريعة تحوّلية وعميقة، ناتجة عن الصدمة والانفعال، والغرور والغطرسة، والاستهتار بالخصم في قطاع غزة الذي لا يكاد يظهر على خارطة العالم.

منذ اللحظة الأولى لاتخاذ قرار الحرب وجيش الاحتلال وبدعم مطلق من واشنطن والمنظومة الغربية، يدك قطاع غزة بكافة أنواع الأسلحة الأمريكية، محدثاً دماراً هائلاً وقتلاً مروّعاً تجاوز العشرة آلاف شهيد نصفهم من الأطفال، وجرحِ نحو 22 ألفا، وتدمير قرابة 40% من قطاع غزة خلال 25 يوما من العدوان المفتوح، ومع ذلك فشل الاحتلال في تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، ولم يُفلح في إضعاف حركة حماس ولم يستطع أن يفكّ الارتباط بين الشعب والحركة، بل أن كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية لا زالت توقع في صفوف جيشه الخسائر الفادحة في عتاده وعديده من الجنود والضباط.

إضافة إلى الفشل العسكري والاستخباري، خسرت إسرائيل معركتها الدبلوماسية في مجلس الأمن بفشلها وسم حركة حماس بالإرهاب، كما فشلت في الجمعية العامة التي انحازت إلى عدالة القضية الفلسطينية، وفشلت في معركة الصورة والشرعية في أوروبا والولايات المتحدة، فانقلب الرأي العام ضد إسرائيل المحتلة بارتكابها المجازر ضد المدنيين والأطفال والنساء، وجرائم الحرب وضد الإنسانية، رغم تواطؤ كبريات الوكالات والقنوات والشركات العالمية مع الاحتلال الإسرائيلي وروايته المدّعاة أو الكاذبة.

رغم الفشل الموصوف لحد اللحظة، إلّا أن هناك إصراراً على إنزال الهزيمة بحماس، باستخدام المزيد من العنف المفرِط والتدمير والقتل الممنهج، سعياً لتحقيق أهداف الاحتلال وغاية البيت الأبيض التي أعلن عنها مؤخراً، وبشكل استباقي ومبكّر في الأول من نوفمبر، لناحية إيجاد توافق إقليمي ودولي لإدارة قطاع غزة بعد القضاء على حركة حماس.

الموقف الأمريكي يحاول إيقاع الهزيمة النفسية في الجانب الفلسطيني والعربي وكأن الأمر تحصيل حاصل، مع أن الاندفاعة الأمريكية هي اندفاعة خطرة عليها، فهي لا تستطيع أو لا تضمن تحقيق ما تريد عبر كيانٍ احتلالي يعاني من عقدة الفشل، وفي وقتٍ هي ذاتها تخشى من التورّط المباشر في المعركة إنْ توسّعت دائرتها، وهذا يَظْهر من خلال كافة التصريحات والمواقف، والمساعي الأمريكية لمنع توسيع دائرة الاشتباك خارج حدود غزة، إن كان في الضفة أو في دول الجوار وخاصة من لبنان حيث حزب الله، ليتم تركيز القتال والكثافة النارية على غزة منفردة.

هذا يعني أن الولايات المتحدة رغم قوّتها وتبجّحها وغطرستها، تعاني من نقطة ضعف، تتمثل في خشيتها من الانزلاق في أتون المعركة بتوسّع دائرة الاشتباك، وما دَفْعِها لأساطيلها إلى شرق المتوسّط إلا للردع ولمنع دخول أية أطراف أخرى في المعركة كما أعلنت تكراراً.

واشنطن تريد لإسرائيل أن تنتصر بالسلاح والدعم الأمريكي، ولا تريد التورّط في الحرب، لأن تورطها يتعارض مع استراتيجيتها وأولوّيتها في مواجهة الصعود الصيني والروسي، وأي تورّط لها في الشرق الأوسط سيعني استنزافا طويل الأمد، خاصة بعد تجاربها في العراق وأفغانستان والصومال، وتورّطها المباشر في الصراع العربي الإسرائيلي، شركٌ كبير لها قد لا تُحسن الخروج منه بسبب تعقيدات القضية الفلسطينية وحساسيتها لدى الشعوب العربية والإسلامية، ناهيك عن عودة البعد الديني في الصراع بين الصليب والهلال.

توسيع دائرة الاشتباك سيضع واشنطن أمام خيارين أساسيين؛ إما الاشتراك في المعركة وهذا مستبعد لأنه سيوقعها في شرك المعارك ويستنزفها وسيصرفها عن استراتيجيتها الخاصة بمواجهة الصعود الصيني، وفي ذلك تهديد لمستقبل هيمنتها العالمية أو أنها ستضطر للبحث عن مخرج لوقف المعركة لأن إسرائيل لن تتمكن من القيام بواجبات المواجهة لوحدها مقارنة بعجزها وفشلها في غزة. وهذا سيضع واشنطن في مفاضلة استراتيجية بين تراجع هيمنتها الدولية إن دخلت المعركة أو إنقاذ نفسها من التورّط في الشرق الأوسط وسيكون ذلك حُكماً على حساب إسرائيل ولصالح حماس والتيار المناهض والمقاوم للاحتلال وللهيمنة الأمريكية.

نقطة الضعف الأمريكية تلك، تفتح نافذة فرص لمن أراد أن يستثمر، ولا سيّما محور المقاومة وخاصة حزب الله وإيران، فإذا أرادت تلك القوى الضغط على واشنطن من نقطة ضعفها، لإحراز انتصار ولو بالنقاط على الاحتلال الإسرائيلي بالشراكة مع حماس، فهذا ربما يدفعها إلى التصعيد ضد الاحتلال الإسرائيلي لاستنزاف قوّته وتشتيت قوّاته بين الشمال والجنوب، وفي محيط فلسطين وعموم المنطقة، وذلك على عين الولايات المتحدة الأمريكية المكبّلة بخوفها من الغرق والانشغال عن مواجهة الصين وروسيا المتربصتين بها أيضاً ويخدمهما استنزافها.

قد تبدو المقاربة خطِرة ومكلفة لأنها تتعامل مع قوة طاغية كالولايات المتحدة الأمريكية، ولكن تقديرات سياسية تعتبر أن قوى المقاومة العربية قد ترى في الأوضاع الحالية فرصة قد لا تتكرر حيث إسرائيل المكسورة في هيبتها وأمريكا الخائفة من تورّطها.

حركة حماس؛ كسّرت كل المعادلات في معركة طوفان الأقصى، فبادرت وخرجت عن المألوف وتجرّأت على إسرائيل وكسرت هيبتها، ويرى المراقبون أن البناء على هذا المسار وتطويره يحتاج أيضاً إلى خروج عن المألوف.

إسرائيل اليوم وبخلاف السنوات الماضية، هي كالبطة السمينة العرجاء، وتوسيع دائرة فشلها أمنياً وعسكرياً سيشكّل عبئاً على الولايات المتحدة، فإسرائيل الآن أصبحت خاصرة رخوة لواشنطن بعد معركة طوفان الأقصى، ومزيد من الضغط على هذه الخاصرة يعني مزيدا من الضغط على واشنطن المكبّلة بخوفها على مستقبل هيمنتها العالمية.

 

المحتوى ذو الصلة