[[{“value”:”
لا تحتاج الانتفاضة إلى حجارة ترشقها لتحظى بامتياز الصفة، فقد تكون أدواتها المعنوية أوقع تأثيرًا من المقذوفات المادية، وقد تصنع حدثًا عالميًا على نحو ما أقدم عليه مخيم جامعة كولومبيا، الذي أشعل فتيل الجماهير الطلابية. يبدو مشهد انتفاضة الجامعات مُذهلًا في كثافته الرمزية المشحونة بالدلالات، وتفيض تفاصيله بمخزونات تأويلية لا تنضب، علاوة على جدوى قراءة الحدث – في مقام آخر مستقلّ – بمنظور أفقي وتشريح عمودي وتمرحُل زمني.
ثمّة تراكمات وإرهاصات وتفاعلات سبقت انتفاضة الجامعات، قدَّمت فيها جماهير العالم لوحات رمزية تفيض بالرسائل والدلالات عبر ميادين الأرض خلال شهور الإبادة، حتى جاء اعتصام القلعة الأكاديميّة الشهيرة في قلب نيويورك، معبِّرًا عن ضمير عالميّ يتأجّج من قبلُ ومن بعد.
“فلسطين في كل مكان”
تبيّن للطلبة والطالبات وبعض أساتذتِهم أنّ الرسالة تبلغ مبلغها حتى دون مفارقة المكان، وأنّ الاشتباك مع مشروع الاحتلال ونهج الإبادة يبدأ من حرمهم الجامعي، وأنّ المؤسسة الأكاديمية العريقة ذاتها ضالعة في استدامة الاحتلال وتشجيع وحشيته من خلال استثمارات مُستترة تخذل شعارات الشفافية والإفصاح.
ثمّة شعارات مُلهمة تعبِّر عن هذا المعنى ممّا خطّه الطلبة على لوحات الاعتصام، منها مقولة: “فلسطين في كلّ مكان”. يُقصَد بعبارة “Palestine is Everywhere” أنّ مظلمة فلسطين تختزل مظالم العالم الفسيح في ذاتها، وأنّ مناصرة هذه القضية تشتبك مع الظلم العالمي المتغطرس. يعني ذلك، أيضًا، أنّ مواصلة احتلال فلسطينَ يفرضها واقعًا حاضرًا في فضاءات العالم أكثر فأكثر، وأنّ النضال لانتزاع حرية فلسطين واسترداد حقوق شعبها يبدأ من هنا أيضًا، و”هنا” هو أيّ مكان على وجه الأرض.
يختزن هذا الشعار الوجيز طاقة جماهيريّة كامنة تفوق التوقّعات، وكلماته قابلة للاشتعال في كل مكان يلتقط مغزاه، ذلك أنّه يوحي بأنّ مقاومة فلسطين ينبغي أن تكون عالمية، وإن تعدّدت طرائقها وأدواتها، وهو يشيرُ إلى أنّ منتفضي الجامعات، هم فلسطينيون أيضًا وفلسطينيات؛ وإن تنوّعت هيئاتهم وتعدّدت مشاربهم.
تتعمّق دلالة الرمز عندما يأتي مشفوعًا باستجابة عملية لمغزاه، وهكذا هي انتفاضة الجامعات، إنها ملحمة واقعية، وليست رمزية فقط. ليس هؤلاء الطلبة الغاضبون المنضبطون متضامنين على طريقة التعاطف النمطي مع “آخرين” في مكان ما، فهم يعيشون فلسطين حقيقة، ويستلهمون قيَم الانتفاضة والثورة والمقاومة، كما يتجلّى للعيان في منطوق هتافهم ومكتوب شعارهم، وفي التمثّلات الرمزية الظاهرة في الهيئة والرِّداء والتصرّف، حتى إنّ بعضهم ينخرط في تجريب خبرة الخشوع في الصلاة إلى جانب أقرانه المسلمين بعد أن يُرفَع الأذان في مخيم الاعتصام الجامعي، قبل أن يستأنفوا الهتاف معًا.
وليست الكوفية التي يتوشّحون بها صيحة أزياء موسمية طابت لبعضهم، فالانضواءُ تحتها برهانٌ على فلَسْطنة الانتماء الفردي والجمعي، وصياغة هُويّة إنسانية عابرة للقارات تمتلئ تصميمًا على الانخراط في نضال عالمي بلا هوادة.
حنظلة وشريحة البطيخ
لهذه الجماهير رموز مشبّعة بدلالات ملهمة، منها شخصية “حنظلة” الذي ارتبط بناجي العلي، في تعبيره عن الفلسطيني الذي ما زال يتجرّع مرارة النكبة ويدير ظهره لظلم عالمي صنع مأساته، لكنّ حنظلة يظهر أيضًا في صياغة رسومية جديدة لم يعد معها مكتوف اليدين خلف ظهره، فهو يرفع بساعده الأيمن راية فلسطين أو يرسم شارة النصر.
كان حنظلة من الرموز المفضّلة التي استحضرتها حركات المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات في العديد من البيئات. ويبقى لمفتاح العودة الذي يقتلع أساطير الاحتلال الساذجة حضوره المتواصل، بينما يحمل بعضهم المثلث الأحمر الذي يرمز إلى فعل المقاومة الفلسطينية بجيش الاحتلال في زمن “طوفان الأقصى”.
من مستجدّات المشهد أنّ الجماهير اكتشفت أنّ شريحة البطيخ قابلة للاستدعاء في الملحمة الرمزية، فألوانها التي تطابق علم فلسطين حفّزت الذكاء الجماهيري على رفعها شعارًا بمجرّد أن حاولت بعض السلطات في بداية حرب الإبادة مطاردة العلم الفلسطيني.
قدّمت وفرة هائلة من الملصقات والشارات والنماذج عبر العالم شريحة البطيخ مشبّعة بدلالة نضالية، ومن مغزى إبرازها أنّ فلسطين مستعصية على الطمس والإلغاء، وأنّ “عليكم حظر هذه الثمرة الرائجة إن أردتم مطاردة فلسطين ومظاهراتها”.
ثمّ إنّ القلنسوة اليهودية “الكيبا” نُسِجت بألوان البطيخ أيضًا، في اشتباك جريء مع وصمة “العداء للسامية” التي تطارد تحرّكات الجماهير، وليقول القوم أيضًا باسم تجمّعات يهودية متعاظمة الحضور: “ليس باسمنا!”، وهذا الأخير شعار بحياله برز في هذا الموسم أيضًا.
رفعت العرعير وطائرته الورقية
لا تنقطع الاكتشافات الرمزية التي يجود بها تدقيق النظر في خيام المعتصمين المنصوبة في الفضاءات الجامعية. تظهر على بعضها مثلًا أسماء مناطق قطاع غزة؛ تعبيرًا عن الالتحام الوجداني بالأهالي الذين يطاردهم القصف، فهذه خيمة بيت لاهيا، وتلك خيمة جباليا، وفي الركن خيمة خان يونس، وغيرها كثير.
صارت مناطق قطاع غزة محفوظات جماهيرية معولمة، أمّا رفح، التي تأتي في شعارات مثل “ارفعوا أيديكم عن رفح!”، فهي كناية عن تهديدات فعل الافتراس المُرتقب الذي لا يتورّع عنه مجرمو الحرب بعد كلّ ما اقترفوه من فظائع يرعاها قادة ديمقراطيات غربية.
لا عجب أن يجد الناظر إلى المشهد مزيدًا من الاكتشافات، فهذه “مكتبة رفعت العرعير” حاضرة بين الخيام في بعض الاعتصامات الجامعية، وهي مكرّسة لمؤلّفات تثقيفية عن فلسطين وقضيّتها وتاريخ الصراع وضرورات الانخراط في هذا النضال.
صار أستاذ الأدب الإنجليزي الدكتور رفعت العرعير من ملهمي هذه الأجيال، منذ أن رثى الأكاديمي النحيل المهذّب نفسه بقصيدة وجيزة المبنى عميقة المعنى، ثمّ حلّق بعيدًا بعد أن قصفه الاحتلال تاركًا كلماته لتفعل فعلها المُذهِل بجماهير الكوكب. سطّر الشاعر قصيدته بالإنجليزية فامتثلت الجماهير لكلماتها التي رُفعت شعارًا في مظاهرات عبر العالم.
برزت الطائرة الورقية التي شوهدت بين خيام المعتصمين من رموز هذه الحالة الجماهيرية، بعد أن رُفِعت في مظاهرات في أرجاء المعمورة، فهي وفاء حرفيّ لوصية خلّفها الشاعر من بعده في القصيدة؛ بأن تُصنَع هذه الطائرات وتُترَك لتداعبها نسمات الحرية التي يستحقّها أطفال فلسطين مثل أقرانهم في العالم.
تخوض الاعتصامات ملحمتها الرمزية، كما فعل طلبة جامعة كولومبيا مع مبنى قاعة هاملتون الذي كان مركز اعتصامهم فجعلوه “قاعة هند” التي اقتحمتها شرطة السطوة القمعية ليلة الثلاثين من أبريل/ نيسان. اختاروا هذا الاسم تحديدًا وفاءً لشهداء فلسطين الأطفال الذين سحقتهم جولات القصف الإسرائيلي بذخائر أميركية منزوعة الضمير.
برزت مأساة هند رجب (6 أعوام) تعبيرًا عن وحشية حرب الإبادة، عندما حاصرتها دبابات الاحتلال داخل سيّارة أسرتها في تل الهوى غرب غزة وأجهزت عليها وقصفت الإسعاف الذي حاول إنقاذها. اشتهرت الطفلة هند بصورتها المُشرِقة في زيّ التخرّج في رياض الأطفال، فرفعها الطلبة فوق رؤوسهم عاليًا واختاروا اسمها في قلب جامعة النخبة العريقة التي تشرئبّ إليها الأعناق، محاطة برسمَيْن لشخصية حنظلة؛ أحدهما في هيئة المنكوب، والآخر في هيئة المُنتصر.
التحام وجداني وهتاف بالعربية
مما يقطع الشكّ بأنه طور جديد من التفاعل العالمي؛ أن تُلحظ مؤشِّرات غير مسبوقة تخالجه، منها أن يُردِّد أميركيون وأوروبيون، وجماهير عريضة أخرى عبر القارّات، هتافات بعربية لا يتحدّثون بها أساسًا، برز منها هتاف “فلسطين عربية، مِن الميّة للميّة”!.
كم هو مُلهِم أن يهتف هؤلاء الشبّان والشابّات بشعار الحرية “من المياه إلى المياه”، في إشارة إلى النهر والبحر اللذَيْن يحُدّان الأرض الفلسطينية المحتلّة بعمومها على جانبي جدار الضمّ والفصل العنصري، وأن يجترؤوا على هذا الهتاف بعد أن حُوصرت خطابات فلسطينية رسمية وغير رسمية في أقفاص أوسلو الذهنية ثلث قرن بحياله.
تُفصِح هذه الإشارة اللغوية عن عُمق حالة تبنِّي القضية؛ التي تتجاوز التضامن التقليدي، فلم يَعُد الاستلهام اللساني مقتصرًا على مصطلحات عربية تتداولها جماهير العالم منذ أعوام، مثل: “انتفاضة” و”نكبة”. صار الاقتراض اللفظي جُمَلًا متكاملة وتراكيب لغوية لم تُسمَع حتى حينها من حناجر غير عربية، فإذ بها تتردّد في فضاءات جامعات النخبة وفي الميادين من حولها.
يتكرّس هذا المنحى مع ظهور مقولات وشعارات على اللوحات والرايات المرفوعة بالعربية أيضًا، فليست العربية من أحدهم بالانتماء الإثني وإنّما بالانخراط النضالي الذي يُعلن انعتاقه من فقاعة المركزية الغربية المهيْمنة ليرقى إلى مستوى عالم متعدد الثقافات ومتنوِّع الألسُن.
يجوز الافتراض بأنّ انتفاضة الجامعات بدت أكثر اقتدارًا على الوفاء للغة العربية من فعاليات يومها العالمي الذي اختارته الأمم المتحدة؛ دون أن تتمكّن الهيئة الدولية من إنقاذ شعب الضادّ في فلسطين من حلف الإبادة الذي يشغل مقاعد دائمة في مجلس أمنها.
تهتف جماهير العالم المتأجِّجة بالعربية، وبها تكتب أيضًا، لأنها تريد أن تبدو عربية فلسطينية، وأن تظهر في مركز الحدث، وأن يصل روحها إليه، فمركز الانتفاضة العالمية ليس حرم جامعة كولومبيا بنيويورك؛ وإنّما مذبح غزة المشهود.
ثمّ إنّ الإشارة إلى حدود فلسطين المائية تحمل رسائل مُسدّدة بعناية، يستجمعها الشعار العالمي الأبرز اليوم: “من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرّة”. يمتاز الشعار الإنجليزي بوقْع موسيقي جعله هتافًا عابرًا للقارّات مشحونًا بمغزى تحرّري. ليست المقولة جديدة في فحواها، فقد حضرت في الأدبيات الفلسطينية عبر الأجيال، ثمّ تخلّت الرسمية الفلسطينية وآلتها الإعلامية عن مبناها ومعناها منذ أن قرّرت الانخراط في مساومات تفاوضية على رقعة مجتزأة من الأرض؛ دون أن تبلغ النهر أو البحر حتى الآن إلّا في شارع غزة الساحلي.
حلّق هتاف “من النهر إلى البحر” كطائر الفينيق نافضًا الغبار والرماد عن ذاته، فقد اكتشفته جماهير تظاهرت في البلدان الغربية خلال عدوان 2021 على غزة (معركة “سيف القدس”)، ثم صار الشعار المتصدِّر خلال حرب الإبادة الرهيبة ضد الشعب الفلسطيني (2023-2024).
استنفر مؤيِّدو الاحتلال وداعمو الإبادة في دول أوروبية وغربية قواهم لمكافحة الشعار وتجريم القائلين به، وما زال يُتّخذ ذريعة لحظر مظاهرات وإيقاع مخالفات وإطلاق تحذيرات مغلّظة، مشفوعة بتأويلات مغالية لدلالات الشعار وتفسيرات تحريضية ضد مُطلقيه، منها أنّه “دعوة للإبادة الجماعية ضدّ اليهود”؛ رغم أنه ينادي بحرية فلسطين لا أكثر، وأنّ حشودًا متزايدة من اليهود يردِّدونه أيضًا. وما زال الشعار محلّ نزاعات قانونية وإدارية في أقاليم أوروبية متعددة تنشغل بحظره تارة، ورفع الحظر عنه تارة أخرى.
يصعد شعار آخر قوامه كلمة واحدة وجيزة المبنى، هي “غزّة”.
صارت الجماهير على جانبي الأطلسي تُردّد الكلمة في وصلات الهتاف الجامحة قائلة: “غزة، غزة، غزة” بإيقاع متتابع كي تخترق أصداؤه المدوِّية جدران الصمت والتجاهل وأستار التواطؤ والتقاعس. يتلاحم هذا الهتاف القوِّي مع ميدان التحدِّي الفلسطيني الذي لم تنكسر شوكته فوق الأرض وتحتها، وهو صيحة تحذير معولمة من حملة الإبادة الرهيبة أيضًا التي تستحقّ إطلاق أبواق الخطر.
تطوّر نوعي في الخطاب
قد يبدو من ظاهر الأمر أنّ لهذه التحركات الجامعية طبيعة مطلبية محدّدة وحسب، موجّهة لإدارات الجامعات، مثل وقف التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي في المجالات الاختصاصية المتعدِّدة، وقطع الاستثمارات الجامعية المباشرة أو غير المباشرة عنه، والإفصاح الشفّاف عن استثمارات الجامعات وتعاقداتها في هذا الشأن. تتبنّى هذه التحرّكات في الواقع مطالب سياسية عامّة أيضًا، تدفع بها بوازع مبدئي وأخلاقي، مثل “وقف إطلاق النار فورًا”، ووقف دعم الإبادة، والكفّ عن تمويل الاحتلال وتسليحه.
على أنّ الشعارات لا تكتفي بالدعوة إلى الإحجام عن سلوك معيّن، مثل وقف الإبادة ونزع الاستثمارات، فمطالبها الواضحة تحرّرية أيضًا. يُنادي المتظاهرون والمعتصمون بتحرير فلسطين صراحة، وليس بحريّتها فقط، ويدعمون حقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال ومقارعته. ممّا يقوله الطلبة مثلًا في هتافاتهم ومخطوطاتهم الإنجليزية: “يوجد حلّ واحد: الانتفاضة، التحرير”.
إنّه تطوّر جوهري في الخطاب يفارق مربّع “التعاطف مع ضحايا” إلى تبنِّي قضيّتهم والانخراط في نضالهم؛ الذي هو “نضالنا” جميعًا. مثّلت انتفاضة الجامعات، بصرف النظر عن أمدها، طورًا جديدًا في التفاعل العالمي مع هذه القضية، وفي هذا الطوْر يبدو أنّ فلسطين صارت في كلّ مكان، وأنّ هؤلاء المعتصمين والمتظاهرين والغاضبين جميعًا صاروا فلسطينيين؛ من طنجة إلى جاكرتا.. ومن سول إلى نيويورك.
“}]]