فلسطين وحرب الأيديولوجيات وغزة وحرب الإرادات بقلم د. سنية الحسيني

 ​   

وصف العدوان الإسرائيلي الحالي على ذلك الشريط الساحلي الضيق والأكثر كثافة سكانية على مستوى العالم منذ الثامن من أكتوبر الماضي بالأكثر عنفاً في القرن الحالي، وتفوق الدمار الذي أحدثته آلة التدمير الصهيونية على مدار أكثر من ثمانين يوماً على ذلك الذي أحدثته حرب عالمية على عاصمة دولة عظمى خلال ثلاث سنوات. حقق ذلك العدوان رقماً قياسياً في قتل المدنيين واستهداف المرافق الحياتية الحيوية اللازمة لاستمرار صمودهم وقطع وجفّف وصول الاحتياجات الأساسية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة. وتثبت ضراوة ودموية وقسوة الهجوم الذي تشنه إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة، اليوم، طبيعة العدو الذي يحتل فلسطين، والمتشبع بالنزعة الأيديولوجية الصهيونية، التي لا تبالي بحياة المدنيين، في سبيل تحقيق أهداف الدولة المحتلة.

ليست النزعة الأيديولوجية الصهيونية وحدها من يحكم طبيعة ذلك الهجوم وحدوده على غزة بل أيضاً تاريخ العلاقة التي ربطت ذلك المحتل بتلك المدينة على مر عمر العلاقة بينهما، ما يمكن أن يفسر أو يستشرف غايات حكومة الحرب الإسرائيلية من مواصلة ذلك العدوان، اليوم. في المقابل، تصدت «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة حماس، و»سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، على وجه الخصوص، وفصائل فلسطينية مسلحة أخرى لصد ذلك الهجوم والغزو الإسرائيلي المبرمج لمدينتهم، بعزيمة وتصميم وإيمان، في ظل وجود فجوة ضخمة بين الطرفين من حيث الإمكانيات العتادية والعددية والتقنية، بمستوى قتالي واستبسالي خلق حالة من الذهول للمتابعين العسكريين، بمن فيهم إسرائيليون. كيف يمكن تفسير هجوم إسرائيل، اليوم، على غزة في ظل الاعتبارات الأيديولوجية الصهيونية التي تحكمها؟ وما هو مستقبل حالة الاشتباك بين إسرائيل كقوة قائمة بالاحتلال والفلسطينيين القابعين تحت سلطة ذلك الاحتلال منذ عقود طويلة، في ظل معطيات معادلات القوى الإقليمية والدولية القائمة على الأرض، اليوم؟.  

تشكلت إسرائيل في الأساس ضمن مقاربة أيديولوجية، وضعتها الحركة الصهيونية، التي نشأت في الغرب الأوروبي، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وعملت على ترسيخها بعد ذلك. وتبنت الحركة الصهيونية، رغم علمانية مؤسسيها، رؤية دينية يهودية لصقل تلك المقاربة الأيديولوجية وتبريرها، واختارت من تلك الديانة بعض الشواهد والمبادئ، لجعلها قواعد راسخة في تلك الأيديولوجيا، وتجنبت واستبعدت أخرى، بما انسجم مع أهدافها الأساسية باستعمار أرض فلسطين، في قلب المنطقة العربية. إن ذلك يفسر الطابع الغربي لنظام الحكم في إسرائيل منذ بداية نشأتها بعد حرب العام ١٩٤٨، بعد سيطرتها على ٧٨% من أرض فلسطين التاريخية وإقامة تلك الدولة عليها. لم تغفل قيادات الحركة الصهيونية في ذلك الوقت الاهتمام بالجانب الديني، رغم علمانيتهم، لأنه شكل أساس مقاربتهم السياسية، لكنه لم يأخذ طابعاً سياسياً. بعد حرب العام ١٩٦٧، زاد تركيز دولة الاحتلال على تسييس الاعتبار الديني في إسرائيل، لانسجامه مع تحقيق أهداف الصهيونية في ظل الاعتبارات السياسية الجديدة. فظهر الاستيطان في الضفة الغربية، التي أطلق عليها الاحتلال «يهودا والسامرة» ترسيخاً لاعتبارات دينية، وركز على ذلك الذي يقوم على أساس ديني، من ضمن اعتبارات أخرى. فبدأ بروز دور رجال الدين في عمليات الاستيطان، كما دشنت سياسة اللجوء للعنف لتحقيقها بغطاء رسمي، في ظل تعقيدات بلوغ الهدف في أرض لم يتمكن الاحتلال من تهجير معظم سكانها، كما كان الوضع في العام ١٩٤٨. 
ظهرت الأحزاب اليمينية المنافسة لتلك اليسارية، فصعد حزب «الليكود» اليميني في العام ١٩٧٧ إلى سدة الحكم، الذي تغول في تحقيق سياسة الاستيطان، وبات منافساً شرساً لحزب العمل الرئيس في الفترة السابقة. بعد توقيع اتفاق أوسلو في العام ١٩٩٣، الذي جاء لتحقيق حل الدولتين، بمبادرة من حكومة العمل اليسارية، التي لم تتوقف عن ممارسة سياسة الاستيطان أيضاً، تصاعدت مكانة الأحزاب اليمينية وتعددت، وباتت تتنافس وحدها في الساحة السياسية بعد أن غابت الأحزاب اليسارية تقريباً عن المشهد. سيطر حزب «الليكود» على مقاليد القيادة في البلاد خلال معظم فترات الحكم التالية على توقيع اتفاق أوسلو، بمساعدة الأحزاب الدينية، التي تسيس دورها، بعد أن أصبح الاستيطان سياسة رسمية معلنة وثابتة، في سبيل تحقيق الهدف الصهيوني بالسيطرة على الأرض. واليوم، وفي تطور طبيعي، وصل حزب «الليكود» الأشد يمينية في البلاد إلى السلطة، ليس فقط بمساعدة الأحزاب الدينية بل أيضاً اليمينية المتطرفة. وتوجه اهتمام هذه الحكومة إلى تطبيق سياسة الضم والتهويد لأراضي الضفة الغربية، وتسليح المستوطنين، وتحييد الوجود السياسي للفلسطينيين، في سبيل الانتقال للمرحلة التالية من الخطة الصهيونية، في مشهد لم يعد خافياً على أحد.  

لم يخرج هجوم حركة حماس على منطقة غلاف غزة في السابع من أكتوبر الماضي عن التطورات سابقة الذكر، وبعد عشرة أشهر من وصول حكومة نتنياهو الأخيرة إلى الحكم. ورغم تخطي العدوان الإسرائيلي على غزة، بشكل صارخ وصادم، جميع حدود الدموية والإجرام الذي نشهده في العصر الحالي، إلا أنه يأتي في ظل منظومة أيديولوجية صهيونية فسرها نتنياهو على أنه يأتي في سياق «حرب الاستقلال المستمرة»، أي تلك التي بدأت في العام ١٩٤٧، وخلقت نكبة تهجير لحوالى مليون فلسطيني، والاستيلاء على أراضيهم، ما سمح بإقامة إسرائيل فوق تلك الأراضي. يأتي ذلك العدوان الإسرائيلي على غزة أيضاً بعد تخلي نتنياهو عن مقاربته السياسية التي تبناها صراحة بعد الانقسام الفلسطيني في العام ٢٠٠٧، والتي تقوم على عدم تقويض حكم حركة حماس في غزة، ودعم حالة الانقسام واستمرار الصراع والتنافس السياسي الفلسطيني بين غزة والضفة، لتحييد إمكانية إحياء العملية السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين أمام المجتمع الدولي. واعتقدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بعد ذلك أن إخضاع قطاع غزة لحصار خانق ولهجمات عسكرية رادعة متكررة من شأنها أن تضمن تحييد أي خطر حقيقي يأتي من غزة.

وطالما اعتبرت غزة الشوكة المؤذية في عنق الاحتلال، فتمنى إسحق رابين أن يبتلعها البحر. خلال عهد الانتداب البريطاني، الذي لم يكتف بالتغاضي عن عمليات الاستيطان الصهيوني على السهل الساحلي لفلسطين، بل سهل ذلك، قاوم الغزيون تحديدا تلك المحاولات الاستيطانية، من خلال آليتين متكاملتين ناجحتين، منعت وجود الاستيطان الصهيوني في القطاع. بدأ ذلك من خلال مقاطعة الغزيين للمستوطنين الذين تواجدوا فوق أراضي القطاع، وواصلوا شن الهجمات عليهم، ما اضطر قوات الانتداب البريطاني للتدخل وإجلائهم في النهاية. وتركزت الآلية الثانية في البناء الفلسطيني على السهل الساحلي للقطاع، إذ تبنى فهمي الحسيني رئيس بلدية غزة في ذلك الوقت مشروعا لبناء غزة الجديدة على شاطئ البحر، فوزع الأراضي القريبة من الساحل على سكان غزة، وفتح شارع عمر المختار وشارع الوحدة، فعمرها وخلق حياة فوق تلك الكثبان الرملية، التي كانت مطمعاً للحركة الصهيونية، كباقي مناطق الساحل الفلسطيني.

بعد احتلال أجزاء كبيرة من قطاع غزة في العام ١٩٤٨، شكل الجزء غير المحتل من القطاع مركز المقاومة الفلسطينية، كما انطلقت حركة فتح الثورية منها في ذلك الوقت. وبعد احتلالها في العام ١٩٦٧، واصلت غزة دورها المقاوم، فاعتبر الاحتلال أن قواته تسيطر على القطاع في النهار، بينما تحكمه المقاومة في الليل. وبقيت غزة ملهمة للمقاومة، فانطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام ١٩٧٨ من حارات غزة. وخلال الانتفاضة الثانية التي انفجرت مع مطلع الألفية الحالية تشابكت السواعد الفلسطينية على جانبي الوطن المحتل في غزة والضفة، لتتصدى معاً لاعتداءات المحتل، في موقف وطني حازم، قوض جميع مساعي الاحتلال لبث الفرقة والانقسام بين أبناء الوطن الواحد، بعد توقيع اتفاق أوسلو. وبعد الانقسام وسيطرة حركة حماس على غزة في العام ٢٠٠٧ بقي القطاع قوة الردع الفلسطينية الأقوى في معادلة المواجهة مع الاحتلال في ظل عاملين، الأول ارتبط بتفكيك المستوطنات الإسرائيلية من القطاع وانسحاب المستوطنين منها بشكل كامل، وتعلق الثاني بإحكام السيطرة الأمنية الإسرائيلية على الضفة الغربية. قد يفسر ذلك المحاولات والمساعي المتكررة لحكومات الاحتلال التي بدأت منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، لتهجير الغزيين من أرضهم، والذي جاء آخرها تلك التي نشهدها حالياً.

حطم الاعتداء الإسرائيلي الأخير على غزة والموقف الأميركي الداعم لإبادة الفلسطينيين، والغربي الصامت المنحاز والذي يكيل بمكيالين، والعربي العاجز عن حماية الفلسطينيين، آخر  معاقل الثقة بقدرة أي جهة أخرى غير فلسطينية على حل القضية الفلسطينية. وأثبتت صلابة قوات المقاومة الفلسطينية في غزة على الصمود مدى ضرورة التسلح بأيديولوجيا وطنية ودينية، لمواجهة تلك الأيديولوجيا الصهيونية التي تسعى لاجتثاث الوجود الفلسطيني من أساسه. وطالما سعت سلطات الاحتلال، بدعم أميركي غربي، وصل حد مساومة السلطة الفلسطينية بقطع المساعدات عنها، بالتدخل في المحتوى الوطني والديني التعليمي للفلسطينيين، بهدف بث ثقافة غير حقيقية عن السلام، رغم استمرار واقع الاحتلال. وفي النهاية، أمام جميع تلك الحقائق التي تكشف عن هول المؤامرة التي تحاك ضد مستقبل غزة ومقاومتها، بات واجباً وطنياً حدوث التحام فلسطيني فوري من قبل جميع ألوان الطيف الوطني، وتحييد جميع الخلافات والمصالح، لتشكيل جهة انتقالية، ذات مصداقية دولية ووطنية، للتفاوض فوراً لوقف جرائم الإبادة بحق الأبرياء في غزة كأولوية، والانسحاب الكامل من غزة، والخروج باتفاق تبادل مشرف، يتناسب مع جميع التضحيات الفلسطينية الجسام، وليكن ذلك مقدمة لترتيب البيت الفلسطيني سياسياً، للاستعداد للمرحلة القادمة.

 

  

المحتوى ذو الصلة