لماذا جباليا وشمال غزة؟

[[{“value”:”

لم تلبث قوات الاحتلال أن رفعت علمها فوق معبر رفح، حتى عاد تركيزها على الشمال، وتحديداً جباليا والزيتون، حيث تتواجد أشرس كتائب المقاومة الفلسطينية.

لفهم ما يجري، دعونا أولاً نفكر بطريقة “جيوسياسية” بعيداً عن معطيات الحرب وتفاصيلها اليومية والإكراهات التي فرضها أبطال السابع من أكتوبر على الاحتلال.

إذا وضعنا أنفسنا مكان صانع القرار الاستراتيجي الإسرائيلي، فإننا نرى في شمال قطاع غزة ما يلي:

1. القرب الجغرافي إلى عمق دولة الاحتلال ومدنه الرئيسية: عسقلان، أسدود، ومنها إلى منطقة تل أبيب الكبرى، فضلاً عن القدس والضفة الغربية، فضلاً عن ملاصقة شمال القطاع لمستوطنات الغلاف الرئيسية، وأهمها سديروت.

2. التكتل السكاني الأكبر، إذ يضم الرّبع الشمالي للقطاع أكثر من 60% من السكان.

3. مدينة غزة، عاصمة القطاع ومركز ثقله السكاني والاقتصادي والسياسي والتاريخي.

4. أشرس كتائب المقاومة.

وبالتالي، فإن أي خطة “واقعية” لتدمير قطاع غزة ككيان يمثل تهداداً لـ”إسرائيل”، من المنطقي أن ترتكز على سحق شمال القطاع وتهجير سكانه والقضاء على المقاومة فيه وتدمير أنفاقها فيه.

من شأن ذلك أن يوفر للاحتلال ما يلي:

1. إبعاد أخطار محدقة بمركز الاحتلال الإسرائيلي، السياسي والاقتصادي، والطرق التجارية التي يأمل بازدهارها مع تقدم التطبيع مع الخليج العربي.

2. تعزيز التباعد بين قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، وحشر الغزّيين في زاوية أكثر ضيقاً وأكثر ارتباطاً جغرافياً بسيناء.

3. إحداث أكبر قدر ممكن من الخلخلة في الوضع الاجتماعي في القطاع من خلال إحداث عملية تهجير كبيرة سيحتاج الفلسطينيون إلى عقود قادمة للتأقلم معها، وهو ما ستصاحبه أزمات سياسية وأمنية واقتصادية خانقة تجعل من المقاومة همّاً ثانوياً.

4. سحق أشرس تشكيلات كتائب القسام، بل وفي أثناء تلك “العملية الجراحية”، سيتحول الشمال إلى مصيدة للمقاومين القادمين من عموم القطاع.

5. على المدى المتوسط، قد يصبح بمقدور الاحتلال تحويل شمال القطاع إلى منطقة عازلة تُقام على أنقاضها مشاريع الوهم التي يسعى الاحتلال وحلفاؤه من خلالها تنفيذ المرحلة الأخيرة من عملية تصفية القضية الفلسطينية، والمتمثلة بمنشآت تربط الدويلة الخاضعة للوصاية بالخارج (المطار والميناء)، على أن تكون تلك المنشآت خاضعة للاحتلال أمنياً، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

إن حرباً يبادر الاحتلال بشنها، في ظروف من الترهل السياسي والأمني والاقتصادي في قطاع غزة، ووفرة في المعلومات والجواسيس، مع امتلاك عنصر المباغتة؛ من شأنها أن تحقق للاحتلال تلك الأهداف.

قد يقول البعض إن الاحتلال لم يكن ليمتلك ذريعة لشن حرب كهذه ما لم تمنحها المقاومة له، وهذا حديث شائع في بعض الأوساط الساذجة، التي تعجز إلى اليوم عن تقدير حجم وحشية الاحتلال وأنصاره شرقاً وغرباً، وتجاهلهم لـ”ردود الفعل” و”حقوق الإنسان” وما إلى ذلك من التفاهات.

لو أن العالم أفاق صباح السابع من أكتوبر على نبأ تنفيذ عمليات اغتيال واسعة بحق العشرات من قيادات حماس السياسية والعسكرية، لتقوم المقاومة بالرد من خلال إطلاق آلاف الصواريخ نحو عمق الاحتلال، ثم تطورت الأمور نحو ذات الحرب المدمرة التي نشاهد تفاصيلها القاسية على مدار أكثر من 220 يوماً؛ لوجدنا الخطاب الأمريكي والغربي كما هو عليه اليوم؛ مناصراً لـ”حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها”.

على أية حال، نجحت كتائب القسام أولاً بالتغطية على اختراقها للمنظومة الاستخبارية الإسرائيلية داخل القطاع، وجاهزيتها العسكرية والأمنية في غزة، وظهر ذلك جلياً في تمنعها عن المشاركة في تصعيدين بين الاحتلال وحركة الجهاد الإسلامي في أغسطس/ آب 2022، ثم في مايو/ أيار 2023.

ثانياً وهو الأهم، بادرت كتائب القسام إلى الهجوم واقتحمت الاحتلال في العمق ومزقت لواء غزة ودمرت قدراً كبيراً من مقدراته المعلوماتية والاستخبارية وأثخنت فيه بشكل مسبق وخلطت أوراقه وجلبت معها إلى أنفاقها العشرات من الأسرى.

أصبح العدو بذلك مجبراً على شن غزو شامل لقطاع غزة تحت إكراهات “القضاء على حماس” و”استعادة الأسرى”، وبات مجبراً على إشباع قدر مضاعف من رغبات الانتقام والقتل وسفك الدماء، ما سيضعه أمام استحقاقات مضاعفة إقليمياً ودولياً.

بعد ثلاثة أسابيع من الغارات الجوية الوحشية، تحرك الجيش بالفعل، وفقاً للمنطق الجيوسياسي الثابت، نحو الشمال، وفشل على الرغم من التجييش المضاعف بتحقيق نصر ساحق، ليذهب بعدها إلى خانيونس تحت إكراه البحث عن “السنوار”، ثم أخيراً إلى رفح جراء فشله بتحرير أي من الأسرى بالقوة أو تحقيق اغتيالات “ثمينة” في أي مكان آخر من القطاع.

بمجرد أن تأتى له التقاط صورة رفع “علم إسرائيل” فوق معبر رفح، عاد الاحتلال إلى الشمال سريعاً، لعل هجوماً ثانياً على جباليا، وثالثاً على الزيتون، يفي بالغرض. لكن المقاومة كانت بانتظاره.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة