مأزِق التخنْدق الدعائيّ الغربيّ مع حملة إبادة غزة

ليستِ الحربُ على غزّة عدوانًا حربيًا وحسْب؛ فهي حملة دعائية جارفة أيضًا، مكرَّسة لتبرير التطهير العِرقي وأعمال الإبادة التي تواطأت القوى الأوروبيةُ والغربية على مساندتها علنًا. تبنّت الولايات المتحدة وأوروبا السياسيةُ دعايةَ العدوان بحذافيرها، انطلاقًا من تضخيم سطوة اللحظة الأولى من حدث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وعزلها عن سياقِها، وتزييف مشهدها بعيدًا عن الوجهة العسكرية الواضحة لهجوم المقاومة الفلسطينية.

بكائيَّة تستنزف الدماء
ليست هذه خبرةً جديدةً على دعاية الاحتلال سوى في المنسوب والمدى، فقد كانت الدموع التي ذُرفت على مستوطنين ثلاثة قُتلوا في الخليل، مثلًا، مادة تعبئة لعدوان طاحن شنّه جيش الاحتلال على قطاع غزة في صيف 2014.

تُوظّف هذه البكائيات في خدمة دعاية العدوان، وكلّما علا منسوب الافتعال فيها، ارتفعت حظوظ القتل الجماعي الوحشي الذي يُقدّم في هيئة “ردّ فعل”، وتعاظَمت بشاعة الجرائم التي تسوّق في صورة “دفاع عن النفس”. وعلى هذا الأساس، يتعيّن وضع الأيدي على القلوب، عندما يذرف قادة الاحتلال الدمع بمعيّة زعماء قوى النفوذ الغربي، فمن عادة هذه القَطرات المفتعلة أن يُؤتى بها توطئةً تبريرية للقتل الجماعي الذي قد يبلغ حدّ الإبادة التي وقعت شرعنتها مسبقًا.

على هذا الأساس حاولت بكائية “السابع من أكتوبر” تجييش عواطف العالم وسكب الدموع على طرف محدّد من الجدار المحيط بقطاع غزة؛ أي جمهور الاحتلال المصدوم من انهيار جيْشه وهزيمة قوّاته وسقوط قواعده وثُكناته. جيء بهذا الافتعال العاطفي على منوال خبرة الحِداد العالمي ذات السطوة على الوجدان والمواقف، بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، التي صارت مدرسة في الاستجابات المثلى تقمّصتها دول أخرى؛ خاصة فرنسا بعد اعتداء “شارلي إيبدو” وتفجيرات باريس (2015)، ثمّ أعيد إنتاج مارد التعاطف المُرعب هذا ليسحق الشعب الفلسطيني، وكلّ مَن يحاول المساس بامتياز التفوُّق الممنوح لقاعدة الاحتلال الحربية في المنطقة.

حاولت دعاية العدوان فرض هذه البكائية على العالم من خلال شحن الخطابات والتغطيات بروايات مُضلِّلة وأخبار مُزيّفة مع افتعال درامي محبوك أحيانًا، مع رسم صورة بريئة لواقع الاحتلال وجيشه ومستوطنيه. جرى، مثلًا، استحضار فتاة شقراء تتقن فنّ ذرف الدموع أمام الكاميرات لتسكب باسم “شهود المذبحة” قطرات متتابعة من عينَيها عند استقبال بايدن في فلسطين المحتلة؛ الذي سارع إلى إظهار شفقة انتقائية فوق العادة في هذا الموقف.

لكنّ بايدن أظهر- مثل حلفائه الغربيين- برودًا واضحًا وتجاهلًا مُطبقًا إزاء الفواجع التي تلحق بالمدنيين الفلسطينيين على مدار الساعة، حتى إنّه تجاوز مقتضيات الحسّ الإنساني وحتى اللباقة الشكلية عندما شكّك بوقوع آلاف الضحايا من المدنيين الفلسطينيين (25 أكتوبر/ تشرين الأول)، فكشف عن مكنونات موقف يحمل شبهة عنصرية؛ فهو لا يعترف بهم ولا يكترث بمصيرهم. نزع هذا المسلك الفجّ وما ماثله المصداقية الإنسانية عن بكائية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فالتاريخ ابتدأ في خطابات قادة الاحتلال والمسؤولين الغربيين في صباح ذلك اليوم، ولم يسبقه سوى الهولوكوست، وعند صباح السبت توقّف الزمن إلى حين القصاص العادل من غزة. جرى هذا المروق من السياق رغم المستجدّات الفاجعة التي تتلاحق تحت أنظار العالم ساعة بعد ساعة بفعل آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا وأوروبيًا بتصميم ظاهر.

إنّ إدارةَ الظهر بالكامل لهذه الأفواج المتلاحقة من الضحايا المدنيين كل يوم- الذين يُشكِّل الأطفال والنساء معظمهم، لمجرّد أنهم فلسطينيون من غزة- تضافرت مع دعاية هوجاء نزعت الصفة الإنسانية عن هذا الشعب باستعمال ذخائر لفظية ونعوت مدبّبة مثل “الوحوش”، أو “حيوانات بشرية” (بالعبرية: خايوت آدام)، وهي حيلة نمطية لتسويغ الإبادة. يعني هذا، ببساطة، أنّ حكومة الاحتلال العنصرية الموسّعة- التي انتخبها في الأساس ناخبون متطرِّفون طابت لهم هتافات من قبيل “الموت للعرب” (بالعبرية: مافيت لعرفيم)- جرّت “العالم المتحضِّر” خلفها بعد أن أعربت عواصم غربية عن عدم ارتياحها لهذه التشكيلة ابتداءً.

نتنياهو متحدثًا باسم “الحضارة”
ارتضى القادة الغربيون أن يكون بنيامين نتنياهو قائد حملتهم الضارية التي ترفع لواء “الخير” في وجه “الشرّ” وقناديل “النور” التي تقتحم “الظلام”. يمتثل نتنياهو وقادة جيشه لهذه الشعارات باقتراف أوسع حملة سفك دماء يشهدها “العالم” إيّاه تحت الأضواء وبالبثّ المباشر، دون أن تكفّ منصّات السياسة والإعلام الغربية عن تمجيد القاتل والتصفيق له وضمان حصانته من المساءلة والعقاب، وإمداده بالذخائر المادية والمعنوية.

من مآزق دعاية العدوان أن يتسيّد نتنياهو تحديدًا المشهد السياسي الإسرائيلي في هذا الموقف المفصلي، فهو مَن يُلقي المواعظ على العالم باسم “الحضارة” و”العالم المتحضر” في مقام ذمّ “وحوش” العصر، كناية عن الشعب الفلسطيني ومقاومته، وبصفة تمتدّ إلى ذمّ السياق الحضاري لفلسطين وأمّتها عمومًا. إنّ حقيقة وجود نتنياهو في مركز التعبير عن دولة الاحتلال والعدوان- التي تحظى بكل هذا العطف الغامر- تمثِّل مأزِقًا موضوعيًا لهذه الدعاية، حتى لو اضطرّته أزمته الداخلية المستعصية إلى الاستقالة خلال العدوان أو بعده. من المفيد التذكير بأنّ رئيس حكومة الاحتلال حظي بلافتات “كرايْم مينيستر” الشهيرة، أي الوزير الإجرامي، بدل “برايْم مينيستر” أي الوزير الأول، فقد شاهدها العالم شهورًا متعاقبة معلّقة في ميادين تل أبيب خلال تغطية الموجة الجماهيرية العارمة التي واصلت التنديد به حتى انفجار الموقف مع قطاع غزة.

لم يقتصر التخندق الأميركي والأوروبي مع العدوان الإسرائيلي؛ على الدعم السياسي والعسكري، فقد تجلّى في تبنِّي مضامين دعاية الاحتلال وترويجها في المنصّات السياسية والإعلامية بصفة غير مسبوقة. يبدو أنّ حالة التلقٌّف الغربي هذه أغرَت الجهد الدعائي الإسرائيلي باستسهال التلفيق والترويج، فاتّخذت موادُّ مزيّفة وساذجة، إسرائيلية المصدر، سبيلَها بشكل انسيابي إلى منصّات سياسية مرموقة، بدءًا من البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي، وافترشت وسائل إعلام غربية مرموقة ورصينة بلا عوائق مهنية أو أخلاقية. لكنّ الإسراف في ترويج مواد مزيّفة أوقع دعاية الاحتلال ومن تواطأ معها في مأزِق جسيم؛ لأنّ هذه الحبكات المنسوجة جاءت في زمن يعلو فيه النقد الشبكي وتتنامى فيه خبرات التمحيص ومنصّات التحقّق والتثبّت من المضامين. ثمّ إنّ ترويج مزاعم مضلِّلة وموادّ مزيّفة أوقع مصادر هذه الدعاية ومروِّجيها في أزمة مع الأوساط الصحفية، كما تبيّن، مثلًا، في مؤتمرات صحفية عقدها مسؤولون غربيون بشأن الحرب، وتتعالى في غضون ذلك موجة استقالات وانشقاقات واعتراضات في وسائل إعلام أوروبية وغربية، علاوةً على مواقع حكومية ودولية ترفض الإذعان لدعاية العدوان ومواصلة تبرير الفظائع بحقّ الشعب الفلسطينيّ.

وإنْ استحوذت سردية العدوان الدعائية على الصناعة الإعلامية، المُعَولَمة جزئيًا، في الدول الغربية؛ فإنّها واجهت حرجًا بالغًا في الفضاءاتِ الشبكية التي يمتلك فيها كلّ فرد من جماهيرها فرصة تسديد نقد لاذع في أيِّ اتجاه يرغب به. فبعض المضامين الناقدة للعدوان على غزّة حظيت بمتابعات قياسية، واختصّها الجمهور حول العالم بتداول واسع في مواقع التواصل، وشكّل هذا المنحى المتعاظم ضغطًا على وسائل الإعلام التي تدرك ثمنَ استغفال الشعوب والاستخفاف بوعي الجماهير، وتخشى عواقب التضحية بمصداقيتها ومهنيّتها في أيام معدودات. ويبدو أنّ الموعدَ حان الآن مع موجات ارتدادية نقدية، قد تأتي لاذعة، بمجرّد أن يبلغ تسونامي البكائية على جمهور الاحتلال مداه ويخسر رصيده الذي استهلكه في الإجهاز على أطفال غزة ونسائها.

ورقة الإسلاموفوبيا وصراع الحضارات
لم يتردّد نتيناهو وكبار المسؤولين والمتحدثين الإسرائيليين في اللعب بورقة الإسلاموفوبيا و”صراع الحضارات”، في مسعى حشد القوى الغربية وتأليب شعوبها على فلسطين ومقاومتها. لم يتورّع رئيس الوزراء الإسرائيلي عن استعمال خطاب إيحائي جسيم الأثر، يدّعي فيه أنّ دولة الاحتلال تدافع عن “الحضارة والتحضُّر” في وجه “البربرية والتوحّش”، أو “أننا ندافع معًا” عن ذلك، في إشارة إلى الاصطفاف الغربي الحاصل ضد الشعب الفلسطيني، وأنّ الاحتلال يمثِّل “قوى النور” في وجه “قوى الظلام”. إنّها إعادة إنتاج مُستهلكة لثنائية “الأخيار والأشرار” التي لجأت إليها إدارة جورج بوش الابن المتشنِّجة، بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، في حملتها التي أحرقت أقاليم شاسعة من العالم الإسلامي، وقد عُدّت هذه خبرة سيئة السمعة في الاستعمال الدعائي لشنّ الحرب بذرائع مضلِّلة جرّت عواقب مريرة على الأميركيين والعالم؛ بدءًا من أفغانستان والعراق.

يعزف نتنياهو وفريقه بهذه النبرة على أوتار الإسلاموفوبيا تحديدًا، وكأنّ قاعدة الاحتلال الحربية في فلسطين تخوض “حملة صليبية” في وجه العالم الإسلامي. ما ترغب قيادة الاحتلال والعدوان في إقناع الشعوب الأوروبية والغربية به: نحن ندافع عنكم، نحن الجبهة الأمامية في الدفاع عن أوروبا والغرب في وجه الخطر الإسلامي! أو هكذا تقريبًا. إنها المقولات التي تتبنّاها أحزاب اليمين الأوروبي المتطرِّف علنًا منذ سنة 2010، أي منذ أن تصالحت مع القوى الإسرائيلية الأكثر تطرّفًا وصارت تتصدّر المزايدات في أوروبا في وجه أي نقد للاحتلال.

لكنّ مضامين الخطاب لا تعمل في وجهة أحادية، فمن شأن هذه النبرة المُغالية أن تفتك مثلًا بالخطاب الساذج الذي تروِّجه دعاية التطبيع الإسرائيلية نحو العرب والمسلمين، علاوة على الوقْع الصادم الذي تُحدثه مشاهد الإبادة الواردة من قطاع غزة في ذاكرة أجيال هذه الأمّة. يُدرِك القادة الغربيون الذين انزلقوا سريعًا إلى خندق الحرب على غزة، أنّ تقمُّص إيحاءات الإسلاموفوبيا- التي تستفزّ العالم الإسلامي وعشرات ملايين المسلمين في أوروبا والغرب- لا يخدم موقفهم، وستكون له ارتدادات غير مرغوبة لدى شعوب العرب والمسلمين وبعض المجتمعات الأوروبية والغربية، التي تلحظ الاصطفاف الأميركي – الأوروبي المُعلَن مع العدوان على الشعب الفلسطينيّ. ليس من فراغ أن أفصح وزراء الخارجية العرب على هامش مداولات مجلس الأمن عن انزعاجهم من الصورة التي يرسمها هذا الاصطفاف في أذهان الجماهير العربية؛ بأنّها حرب الغرب ضدّ الشرق، كما عبّر عن ذلك وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، مثلًا، الذي سبق أن حذّر من ذلك لدى استقباله وزيرة الخارجية الألمانية أنّالينا بيربوك في عمّان.

تضليل يكشف أزمة أخلاقية
إنّ الثقة الزائدة بالنفس التي تتملّك القائمين على منظومة الاحتلال الدعائية ذات الحضور العالمي، تستدرجها إلى أخطاء جسيمة، خاصة عندما تستشعر أنّ رسائلها الساذجة وموادّها المضللة مضمونة الوصول إلى أبرز منصّات السياسة ووسائل الإعلام في الدول الأوروبية والغربية، فتغفل هذه المنظومة عن مفعول عامل المصداقية، ولا تأبه بمظاهر التناقض الواضحة بين القول والفعل أو حتى تضارب بعض الذرائع الدعائية.

يبدو واضحًا أنّ مبالغة القادة والمسؤولين الإسرائيليين وأقرانهم الغربيين في التمسُّح بالإنسانية والحضارة- في سبيل حشد التأييد للعدوان على الشعب الفلسطيني في غزة- تلازمت مع تجريد الفلسطينيين بشكل غير مسبوق في شكله وتعبيراته وكثافته من الإنسانية، إلى درجة استخدام تعبير “حيوانات بشرية” (خايوت آدام) الذي برز به وزير الحرب غالانت ابتداءً، وقد أعلن (9 أكتوبر/ تشرين الأول) في السياق ذاته عن قطع الماء والغذاء والدواء والكهرباء والوقود “وكلّ شيء” عن شعب بحياله، ثم وصل المصطلح إلى منصّة الأمم المتحدة في نيويورك ذاتها على ألسُن المسؤولين الإسرائيليين الذين اجترؤُوا على التلفُّظ بها من أروقة الدبلوماسية الأبرز برعاية واضحة من الولايات المتحدة والدول الأوروبية لهذا الخطاب إلى حدّ التقمّص الساذج.

ثمّ إنّ دعاية مساندة العدوان، التي راجت في المنصّات السياسية والمنابر الإعلامية على جانبي الأطلسي، أوقعت أصحابها في مأزِق مع النقد الجماهيري عبر العالم، خاصة بعد افتضاح ما تنطوي عليه من مُفاضلة سقيمة بين أرواح البشر على أساس غير متكافئ، وانكشاف استسهالها ترويج أخبار مزيّفة دون تحقّق وتثبّت، والوقوف على مراوغات واضحة تحاول التستّر على جرائم حرب بشعة؛ كما جرى في قصف المستشفى المعمداني في غزة مثلًا (17 أكتوبر/ تشرين الأول).

أوقعت الدعاية الأوروبية – الأميركية الداعمة للعدوان ذاتَها في موقف حرج عندما بالغت في ترديد مقولات محدّدة في هيئة المحفوظات المقدّسة، من قبيل “حق إسرائيل المطلق في الدفاع عن نفسها”؛ بينما شاهد العالم أعداد الضحايا المدنيين في قطاع غزة وهي تقفز إلى معدّلات قياسية متصاعدة، بصفة تعزِّز الانطباع بأنّ ما يجري ليس إلا حملة إبادة.

كان بعض المسؤولين الغربيين يطالبون في جولات سابقة بالتهدئة وضبط النفس ووقف إطلاق النار، خاصة مع ارتفاع مؤشِّرات الضحايا، لكنّهم الآن يؤجِّجون الموقف ويُلقون باللائمة على الجانب الفلسطيني على نحو يعبِّر بإخلاص عن نزعة لوْم الضحية.

وفي النهاية؛ يبدو أنّ داعمي الاحتلال المتّشحين بالشعارات الأخلاقية يسقطون في أنظار العالم إلى القاع مع كلّ يوم تتواصل فيه المجازر الوحشية في قطاع غزة، ويتواطؤون على كنسها تحت بساط التجاهل، وينهمكون في تبرئة قاعدة الاحتلال التي يساندونها من أي مسؤولية واضحة عن هذه الفظائع. يرى العالم، وترى بعض شعوبهم أيضًا، كيف يستعملون فنون المراوغة اللفظية التي تمنح برنامج الإبادة والتطهير العرقي أفقًا زمنيًا رحبًا لمواصلة طريقه دون عوائق. خسرت أوروبا سلطتها الأخلاقية، بتعبير ممثل سياستها الخارجية جوزيب بوريل، وهي الخسارة الأولية فقط في رحلة السقوط الحرّ.

 

المحتوى ذو الصلة