مراوغات على جرّار حبل المُفاوضات

[[{“value”:”

منذ تأسيسها بالحديد والنار، لم تلجأ دولة الإرهاب المنظّم إلى خيار التفاوض إلا لفرض حقائق الأمر الواقع، وترسيم النتائج الحربية المُتحقّقة على الأرض، بما في ذلك خطوط وقف إطلاق النار، على نحو ما تجلَّى في أول مفاوضات في العام 1949 لعقد اتفاقيات هُدنَة، تولّى إبرامها في رودس، بعيداً عن الأنظار، ضبّاطٌ من العرب واليهود، أتوا إلى تلك الجزيرة النائية عن ساحة الصراع، ليس لإجراء مزيدٍ من الحوار والمساومات وهدر الوقت بلا طائل، وإنّما لتوقيع وثائق كانت أقرب ما تكون إلى الاستسلام الكامل.

حتّى حرب 1967، لم يعرف الصراع العربي الإسرائيلي أيَّ نوعٍ من المُفاوضات، كما أنّ نتائج هاتَين الحربَين لم تُرسَّم على الورق، فتولّت قواتُ الاحتلال فرضَ خطوط وقف إطلاق النار بقوّة النار ذاتها. وكسابقتها، لم تُوثَّق أيضاً النتائجُ الميدانيةُ (النكسة) أو توقيعها، إلى أن أرسلت الأمم المتّحدة مبعوثها غونار يارينغ لتدشين أول مُفاوضات غير مباشرة، لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242، ليستمرّ ذلك العبث إلى ما بعد حرب 1973، التي أعادت الروح، من دون جدوى أيضاً، إلى لعبة المراوغات هذه، التي استُعيض عنها بمفاوضاتٍ مباشرةٍ، كانت “كامب ديفيد” أول حلقاتها.

كانت المُفاوضات في حينه مُجرَّد لعبةٍ تفاوضيةٍ مكشوفةٍ، ولا سيّما في شقّها الفلسطيني، هدفها شراءُ الوقت وتوظيفه، لفرض مزيدٍ من الحقائق الاستيطانية، وسدّ الطريق على إمكانية قيام دولة فلسطينية، إذ أعلن رئيس حكومة الاحتلال إسحق شامير، إبّان مُؤتمر مدريد عام 1991، وقد ذهب إلى هناك مُرغَماً، اعتماد سياسة التفاوض من أجل التفاوض، قائلاً لمعارضيه من محازبيه في الليكود، إنّه سيفاوض الفلسطينيين 20 سنة، وهو ما كان بالفعل، بل إنّ خلفاءه في سُدَّة الحكم مضوا في لعبة المراوغات هذه زمناً أطول ممّا كان قد وعد به.

بقفزة عريضة إلى الأمام، وطيّ صفحةٍ مديدةٍ من عملية جرّ المراوغات على جرّار حبل المُفاوضات الطويل، ها نحن نقف اليوم قُبالةَ فصلٍ أدهى وأمرّ من فصول هذه اللعبة السمجة، ولا سيّما منذ بدء الحرب على غزّة، فبدلاً من المُفاوضات من أجل المُفاوضات، على نحو ما كان عليه الحال طوال العقود الماضية، ها نحن ننجرّ مُجدَّداً إلى اللعبة ذاتها الطافحة بدم الأطفال والنساء، الموظَّفة هذه المرّة لإطالة عمر المَقتلة، والتغطية على مسلسل الفظائع المتواصلة، الأمر الذي يُشير سلفاً إلى أنّ هذا الفصل من لعبة المُفاوضات، أو المراوغات، سيأخذ شكل ستارةٍ سوداءَ ممزَّقةٍ، لتسويغ دوافع حرب الإبادة الجماعية، وإطالتها ما أمكن.

ولعلّ أكثرَ فصول لعبة المُفاوضات انكشافاً، وأقلُّها خِداعاً، هو الفصل الجاري على خشبة المسرح الإقليمي، في هذه المرحلة المفتوحة على الاحتمالات الخطيرة كلّها، بما في ذلك اندلاع حرب إقليمية بين يوم وآخر، فصل خداع وتحايل، تُشارك فيه الولايات المتّحدة بالباع والذراع، تماماً كما في الحالات السابقة كلّها، بهدف كبح مسار صِدام عسكري مُرجَّحٍ بقوَّةٍ مع قِوى محور الممانعة، وتجنيب دولة الاحتلال المُنهكة مواجهةً لا تقدر عليها مُنفردةً، ولا تستطيع تحمُّل أوزارها البشرية، وتكبُّد مضاعفاتها المادّية الرهيبة، وذلك عبر ما تُسمّى مفاوضاتِ وقف الحرب وتبادل إطلاق الأسرى، أي إحياء هذه المفاوضات، التي يتفنَّن نتنياهو في وضع العوائق أمامها، والتفنُّن في سبل التهرّب من نتائجها.

وكما كانت الولايات المتّحدة شريكاً من الباطن لدولة الاحتلال في لعبة التفاوض من أجل التفاوض، وشريكاً مُضارِباً في آلاعيب المناورات وعملية تقطيع الوقت، وحليفاً فاعلاً بكلٍّ قوَّةٍ في حرب الإبادة على غزّة، منذ اليوم الأول، ها هي تواصل اللعبة ذاتها الماجنة، واختلاق البدائل المُزيَّفة، لتفادي تعرّض ابنها الشقي المُدلّل لمخاطرِ ضربةٍ قاسيةٍ، قد تُؤدّي إلى بدء العدّ العكسي لزمن التفوّق العنصري على العرب كافّة، وقد تضع نقطةً في آخر سطر الاستعلاء العرقي والغطرسة، بعدما تأكَّد عجز الدولة المجنونة عن الدفاع عن نفسها بنفسها، وفق ما تجلَّى عليه الأمر ثلاث مرّات متتالية منذ بدء “طوفان الأقصى”، وقد تفعل الضربة شبه المُؤكَّدة مفاعيلها في عمق وعي مجتمع مصاب بداء الغرور، يقوده مجرمُ حربٍ مطلوبٍ للعدالة من المحكمة الجنائية الدولية.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة