“المكارثية” التي تأبى أميركا أن تفارقها

يعرّف قاموس التراث الأميركي “المكارثية” على النحو التالي: أولا، ممارسة سياسية قائمة على توجيه اتهامات بعدم الولاء أو التخريب من دون اعتبار وافٍ لأدلة حقيقية. ثانيا، استخدام أساليب تحقيق وتوجيه اتهامات غير عادلة بهدف قمع المعارضة. وتستمد المكارثية اسمها من السيناتور جوزيف ر. مكارثي، وهو جمهوري مثّل ولاية ويسكونسين في مجلس الشيوخ الأميركي ما بين أعوام 1947 – 1957، حين توفي. لم يكن عضواً معروفاً أو بارزاً، لا في الحزب الجمهوري ولا في مجلس الشيوخ، إلا أنه في 1950 شقّ طريقه إلى الشهرة، عندما زعم أن في حوزته قائمة تضم 205 أسماء لشيوعيين يعملون في وزارة الخارجية الأميركية. حينها كان قد بدأ الاستقطاب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وساد في أميركا ما عُرف بـ”الخوف الأحمر”. ولأن مكارثي كان رئيساً لـ”اللجنة الفرعية للتحقيق الدائم” في مجلس الشيوخ، فقد استغلّ هذا الموقع الذي كان يشغله في عقد جلسات استماع حول ما زعم أنه تخريب شيوعي في أميركا وتسلل شيوعي للقوات المسلحة. أما المستهدفون بتحقيقاته، أو قل ضحاياه، فكانوا موظفين حكوميين، وشخصيات بارزة في صناعة الترفيه في هوليوود، وأكاديميين، وسياسيين ذوي نزعاتٍ يسارية، وأعضاء في النقابات العمّالية.

كانت نتيجة هوس مكارثي بمحاربة الشيوعية كارثية، فقد خسر كثيرون وظائفهم، ولم يتمكنوا من إيجاد وظائف أخرى، ودُمّرت حياتهم المهنية، كما دخل بعضهم السجون، بناء على أدلة ظرفية ومشكوك فيها. المفارقة أن بعض القضاء كان متواطئاً في إسفاف مكارثي وشطحاته. وبقي الحال كذلك بضع سنين إلى أن بدأ القضاء الأعلى درجة بالنظر في تلك الأحكام والإجراءات التي سُلِطَت سيفاً مُشَرَّعاً على أعناق ضحاياها، فكان أن نُقِضَت أحكام كثيرة، وَأُلْغِيَت قوانين على أرضية عدم دستوريتها، وَرُدّت قرارات فصل من العمل على أنها تعسّفية وغير قانونية، وأُبْطِلَت القوائم السوداء غير الرسمية التي كان يلتزم بها أصحاب العمل والمؤسّسات الخاصة والعامة، والتي تشوّه سمعة المستهدفين، وتحرمهم من نيل الوظائف. وفي 1954 تمَّ توبيخ مكارثي من مجلس الشيوخ، وتمَّ تهميشه فيه، لكنه كان قد دمّر حياة مئات من الأسر الأميركية بشكلٍ لا يمكن إصلاحه أو تعويضه. ومنذ ذلك الحين، أصبحت “المكارثية” تعبيراً عن حقبة سوداء في التاريخ الأميركي، تحيل إلى الاستهداف والمطاردة غير العادلين لمن ينظر إليهم معارضين أو لا يتفقون مع “التيار السائد” في الحكم والمجتمع.

يُفترض أن الولايات المتحدة قد تعلمت من تلك الحقبة السوداء في تاريخها، وخصوصاً أن ثمَّة شبه إجماع على اعتبارها كذلك. إلا أن الحقيقة أن تلك الحقبة في خمسينيات القرن الماضي لم يتم استئصالها من جذورها، بقدر ما تمَّ تجميدها وحفظها لعل ظروفاً مستقبلية تجدد الحاجة إليها. وهذا ما كان، فبعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول (2001) في كل من نيويورك وواشنطن، تمَّ نفض الغبار عن المكارثية واستدعاؤها. لم تكن المشكلة في استهداف من قاموا بالهجمات أو أعانوا عليها أو من يمثلون خطراً حقيقياً داهماً على الأمن الأميركي، بقدر ما كانت في استهداف ومطاردة المسلمين الأميركيين ممن يتبنون آراء ومواقف مخالفة لمؤسّسات الحكم والأفكار السائدة، مع أن هذا حق محميٌ دستورياً. حينها، عمدت أجهزة الأمن إلى الاتكاء على قوانين “مكارثية” أقرّها الكونغرس من دون أدنى اعتبار للدستور والقيم الأميركية، ونجحت في تدمير حياة مئاتٍ من الأشخاص، وإغلاق مؤسّسات إسلامية أميركية عديدة بناء على أدلة ملفّقة، أو غير قاطعة. جرى ذلك كله، في ظل تواطؤ إعلامي بغيض.

الأخطر في مرحلة ما بعد “11 سبتمبر” أن المكارثية لم تعد حكراً على الحكومة فحسب، بل دخلت جماعات ضغط على الخط مستفيدة من ثورة الاتصالات الهائلة. من هنا، تشكلت شبكات الإسلاموفوبيا القائمة على التشويه والكذب والافتراء في محاولة لتصوير العرب والمسلمين الأميركيين طابورا خامسا في البلاد. وتحالفت هذه الشبكة مع اللوبي الصهيوني في استهداف كل من يجرؤ على الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني. لم يسلم أحد، مؤثر وفاعل، من هذه الحملة الشرسة والمنظمّة. كما لم تسلم منها مؤسّسات ومنظمات غير ربحية أو دولية. طلاب ونشطاء ومهنيون وأكاديميون ورجال أعمال وسياسيون، من كل الخلفيات والأعراق، بما في ذلك مسيحيون ويهود أميركيون بيض، تعرّضوا، وما زالوا، لتشويه السمعة والملاحقة، وكثير منهم خسروا مستقبلهم المهني ووظائفهم. كل ما يتطلبه الأمر من تلك الشبكات “المكارثية” أن تبثّ أكاذيب عن شخص أو مؤسّسة ما، وتكيل لهم التهم عبر مواقع تنتشر كالفطر على الإنترنت فتصوّرهم شخصيات أو مؤسسات “متطرّفة” أو “إرهابية” أو تدور حولهم “الشبهات”، أو على الأقل تصمهم بأنهم “خلافيون”. الهدف واضح هنا، إذا لم يكن ممكنا تدمير هؤلاء الأشخاص والمؤسّسات، فعلى الأقل نزع الشرعية عن أصواتهم وضرب مصداقيتهم.

منذ الهجوم الذي شنّته حركة حماس في منطقة غلاف قطاع غزة في السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، وما تبع ذلك من عدوان إسرائيلي وحشي على المدنيين الفلسطينيين في القطاع، فَعَّلَت المكارثية الأميركية أدواتها بشكل لم يسبق له مثيل. لقد وجدت شبكات الإسلاموفوبيا واللوبي الصهيوني في أجواء الاحتقان فرصة سانحة لمحاولة خنق أي صوت مؤيد للحقوق الفلسطينية في أميركا، فضلاً عن أمانيهم بنقض الإنجازات الجوهرية التي تحققت في العقد وبضع العقد الماضي لصالح السردية الفلسطينية هنا. وكما كان متوقّعاً، وجدت هذه الشبكات وهذا اللوبي حاضنة داعمة في أوساط الحكومة والكونغرس والإعلام، حيث تتمُّ شيطنة وتشويه، بل وحتى التحريض على كل من يجرؤ على كشف المزاعم الإسرائيلية وفضح جرائمها البشعة في قطاع غزّة، وفي عموم فلسطين المحتلة. لم يسلم من ذلك أعضاء كونغرس، ولا أستاذة جامعيون، ولا طلاب، ولا إعلاميون، ولا نشطاء، من كل الخلفيات والأعراق، ولا حتى شخصيات ومنظمات أممية وحقوقية. إنها اللطخة السوداء في التاريخ الأميركي التي تأبى أن تزول، وكأنها هي المعيار لا الاستثناء فيه، كما يجادل كثيرون في الأكاديميا الأميركية.

 

المحتوى ذو الصلة