مع إعلان هدنة إنسانية في قطاع غزة بوساطة قطرية، شاركت فيها مصر والولايات المتحدة الأمريكية، وفي ظل تسريبات عن احتمال تمديدها يوما أو يومين إضافيين، بدأت تطفو على السطح الكثير من الأسئلة بخصوص المعركة ونتائجها ومآلاتها، وفي مقدمة هذه الأسئلة المقارنة بين حجم الخسائر البشرية من شهداء وجرحى وحجم الدمار في المباني والمؤسسات في غزة من غزة من جهة، وعدد الأسرى والأسيرات المفرج عنهم وفق الاتفاق كمخرج وحيد حتى اللحظة للحرب، من جهة ثانية.
كثيرون صاغوا السؤال بشكل مباشر: هل تحرير عشرات الأسيرات والأسرى بل والآلاف منهم بصفقة لاحقة “يستحق مقتل الآلاف وتدمير غزة”؟ البعض يسأل ذلك إشفاقا وحزنا، والكثيرون يسألونه تشكيكا وقدحا. وإذا كانت الفئة الثانية تصدر عن مواقف مسبقة وانحيازات معروفة، فإن الشريحة الأولى تستحق نقاشا وإجابات وافية.
لكن قبل محاولة المساهمة في هذا النقاش، يلفت النظر ملحوظتان مهمتان ولكن مقلقتان على هامش إعلان الهدنة، مختصتان بالنخب والهيئات والشعوب خارج فلسطين، وتصدران عن نوايا طيبة وأصل سليم، لكنهما مبنيّتان على افتراض أن الحرب قد انتهت تماما؛ الأولى الجزم بالانتصار والاحتفال به بدل الانشغال بالعمل على تثبيته بوقف الحرب والحيلولة دون استئنافها، والثانية التركيز على فكرة “ماذا علمتنا غزة” أو ماذا أفادتنا، بدل الانشغال بكيف ندعمها ونساعدها خلال الحرب وبعدها.
وبالعودة لسؤال تقييم الحرب، فإنه سؤال سابق لأوانه، إذ لم تنته الحرب بعد ولا اتضحت كل أبعادها ونتائجها، ورغم ذلك وبافتراض أن الحرب ستنتهي مع هذه الهدنة وتمديدها، فإن تقييمها من خلال الدمار والخسائر مقابل الأسرى تقييم كمّيٌّ تتبدى في تبنيه أربع معضلات رئيسة؛ الأولى أنه يقارن عدد الشهداء والجرحى بأعداد الأسرى المفرج عنهم، وتحديدا المفرج عنهم في الاتفاق الحالي، وهما أمران لا تقوم بينهما مقارنة سوية. والثانية أنه ينظر للخسائر البشرية لدى الجانب الفلسطيني دون “الإسرائيلي”، والثالثة أنه -إن قارنا بين الجانبين- تقييم مبنيٌّ على العدد وليس النسبة. والقصد هنا نسبة الشهداء والقتلى لعدد السكان في الطرفين، وقد فصّل الدكتور وليد عبد الحي في ذلك بالأرقام مؤخرا وبيّن كيف أن خسائر الاحتلال بهذا البعد أكبر.
والرابعة، وهو الأهم، أن التقييم الكمي من حيث المبدأ ليس المعيار الصحيح لحساب المكاسب والخسائر تحديدا في حالات الاحتلال والتحرر الوطني مثل القضية الفلسطينية، والتي لا توازُنَ فيها بموازين القوى ولا ندّية فيها في الإمكانات ولا الحرب فيها نظامية، وبالتالي فإن الخسائر لدى المقاومة والشعب تحت الاحتلال تكون دائما أكبر بكثير من الطرف المحتل، كما هي كل نماذج التحرر الوطني والمقاومة عبر التاريخ.
إن التقييم السليم للحرب الحالية هو من زاوية ارتباط نتائجها بالصراع مع الاحتلال ومشروع التحرير، وبالتالي مدى تأثيرها على مسارات جوهرية في القضية الفلسطينية على المدى البعيد. حتى فشل الاحتلال على مدى أكثر من شهر ونصف في تحقيق أهدافه من العدوان واعترافه ضمنا بالفشل من خلال قبوله الهدنة وتبادل الأسرى، وهي معايير صالحة لحروب سابقة، لا تكفي في الحرب الحالية -التي بادرت لها المقاومة- لتقييم كامل مسار الحرب على أهميته البالغة وتأثيره على نتائجها.
أول ما ينبغي أن يوضع في ميزان التقييم هو فقدان الاحتلال قوة الردع التي اعتمد عليها لعقود، وانهيار أساطير الجيش الذي لا يقهر والاستخبارات التي تعرف كل شيء، والقوة الإقليمية التي لا توازيها قوة ولا يمكن مجرد التفكير في مواجهتها. إن ما حققته كتائب القسام يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر قد مزّق هذه الأساطير، وتآكلت قوى الردع لدى الاحتلال ليس فقط أمام المقاومة الفلسطينية، ولكن كذلك أمام عدة قوى ودول في المنطقة.
ومن أهم معايير التقييم الخسائر الكبيرة التي تكبدها الاحتلال خلال الحرب على صعيد ضباطه وجنوده بين قتيل وجريح وأسير (علما أنه لا يعلن الأرقام الحقيقية)، وكذلك على صعيد دباباته وآلياته بين تدمير وإعطاب. وهذا، إلى جانب تأثيره المباشر عسكريا وميدانيا، ذو علاقة مباشرة بسمعة المؤسسة العسكرية “الإسرائيلية”، ومعنويات جنود الاحتلال مقابل معنويات المقاومة، ومدى قدرة جيش الاحتلال على الاستمرار في الحرب فضلا عن تحقيق إنجاز ما فيها.
بالتوازي مع ذلك، فإن أزمة الثقة بين حكومة الاحتلال والمؤسسة الأمنية والعسكرية، والتي تبدى شيء منها أمام وسائل الإعلام رغم التعتيم الرسمي المتبع، من أهم نتائج المعركة وارتداداتها التي ستتفاعل وتتفاقم بشكل كبير وعلني بعد الإعلان عن انتهائها، ويلحق بذلك تعمّق حالة الاستقطاب داخل الكيان وإذكاء صراعاته الداخلية، إضافة لأزمة الثقة بين المجتمع والدولة التي لم تستطع حمايته من المقاومة، بل أثبتت تحقيقات وتقارير لاحقة أنها هي مَنْ قتـَـلَت الكثيرين وليس المقاومة. وينتج عن ذلك مستقبل غامض لما يسمى مستوطنات غلاف غزة التي يبدو من المستحيل أن تعود لحالتها السابقة، وكذلك الهجرة العكسية التي سُجلت في الكيان منذ بداية الحرب.
وبنتيجة كل ما سبق، أدت الحرب لإذكاء الأسئلة الوجودية داخل الكيان، وأقصد بذلك علامات الاستفهام حول مستقبله واستمرار وجوده في المنطقة، فضلا عن فرص نجاح مسار التطبيع مع الدول العربية. وتبدو هذه الأسئلة أكثر وضوحا وإلحاحا اليوم لدى بعض الباحثين والسياسيين “الإسرائيليين” والغربيين الذين كانوا شككوا في إمكانية استمرار الكيان على المدى البعيد و/أو حذروا من أن عبئه على الغرب وتحديدا الولايات المتحدة قد لا يمكن تحمله في المستقبل البعيد.
وأخيرا، وبعد كل ذلك، هناك صفقة تبادل الأسرى المتوقعة بين المقاومة والاحتلال بخصوص الجنود والضباط مقابل المقاومين، وهي صفقة قد تكون قادرة على تبييض سجون الاحتلال من الأسرى الفلسطينيين، بما لذلك من تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على الصراع والمعنويات والتجاذبات داخل الكيان ومستقبل الكثير من قياداته السياسية والعسكرية وفي مقدمتها نتنياهو، وهي سياقات ليست بالقليلة ولا عديمة التأثير كما هو واضح.
وفي الخلاصة، فإن خسائر الاحتلال وبالتالي مكاسب الفلسطينيين كثيرة وكبيرة في هذه الحرب، وهي مكاسب استراتيجية ذات علاقة جوهرية بالصراع ومستقبل القضية الفلسطينية، ولم نتطرق لمكاسب أخرى إضافية تبدو أقل أهمية من قبيل الصورة والإعلام والسردية وغير ذلك. وهي مكاسب ثبتت في اليوم الأول من الحرب ولم/ لن تؤثر عليها التطورات اللاحقة. ومع عدم التقليل من بشاعة وفداحة ومأساوية وأهمية الخسائر البشرية من شهداء وجرحى والتدمير الحاصل، إلا أنها من قبيل الانتقام ومحاولة تقليل وقع هذه الخسائر على الداخل “الإسرائيلي” وبالتالي ارتداداتها على مستقبل الساسة والعسكريين.
إن حسابات الربح والخسارة بالمعنى الاستراتيجي والعسكري والأمني وبما يتعلق بجوهر الصراع ومستقبل القضية الفلسطينية تتبدى بوضوح لصالح الفلسطينيين ومقاومتهم رغم فداحة الثمن المبذول، وستكشف نهايات الحرب الكثير من هذه المعالم عاجلا أم آجلا.