هزيمة إسرائيل وخسارة الغرب

التعاطف الغربي غير المشروط مع إسرائيل منذ صباح 7 أكتوبر، حتى قبل أن تتكشّف حقيقة ما جرى، والدور الخبيث الذي لعبته الدعاية الصهيونية لتجريد الفلسطيني من إنسانيته، وما زال الإعلام الغربي يردّد أكاذيبها، كلها عوامل أدّت إلى الحكم على الفلسطينيين بالموت. وبالتالي، برّرت الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يتعرّض له سكّان غزّة منذ أكثر من شهرين ونيف. فهذا العمى الغربي في دعم الآلة الجهنمية لإسرائيل هو الذي يغذّي المنطق الجنوني والمرضي لكل هذا الحقد والهمجية الذي تشهده غزّة، والذي يرقى إلى وصف المحرقة التي تنفّذ على الهواء مباشرة، يجسّدها هذا الانتقام الإسرائيلي البشع المستمر وغير المحدود والمدعوم والمحمي غربيا، ضد السكّان المدنيين الأبرياء في غزّة. فما نشهده هو إبادة جماعية ممنهجة، لا تسعى فقط إلى التطهير العرقي الجسدي، وإنما أيضا إلى اقتلاع كل أثر للفلسطينيين من أرضهم من خلال تدمير بيوتهم ومرافق حياتهم الاجتماعية، بما في ذلك أرشيف بلديتهم ومكتباتهم وجامعاتهم لمحو تاريخهم وماضيهم ومستقبلهم، وطرد من بقي منهم حيا خارج أرضهم.

ولكن إسرائيل كلما أمعنت في ارتكاب جرائمها البشعة في حقّ الفلسطينيين الأبرياء مثل من يطلق النار على قدميه، لأن صور جرائمها ستظلّ تلاحقها مثل ظلها تزاحم صورة الضحية التاريخية الذي قامت عليه الفكرة الصهيونية، عندما حوّلت مأساة يهود المحرقة إلى أصل تجاري تبتزّ به الدول الغربية وتفرض به قوانينها على حرية الرأي والتعبير في الغرب، إلى درجة أصبح معها كل حديثٍ عن اليهود واليهودية وتاريخ الديانة والشعب اليهودي من المحرّمات التي يصعب نقدها أو التشكيك في بعض مسلّماتها كما وضعتها وتصوّرتها الصهيونية لخدمة أيديولوجيتها العنصرية. هذه الصورة، أو ما كان يصفها مفكّرون ومؤرّخون يهود منتقدون للصهيونية، مثل روجيه غارودي وإيلان بابيه، بـ “الأساطير المؤسّسة” لدولة إسرائيل، هي التي تتحطّم اليوم أمام أعيننا، وعلى أيدي الصهاينة أنفسهم من خلال جرائمهم السادية التي تنتشر اليوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تستفزّ ذكاء شرائح واسعة من الرأي العام العالمي الذي لم يعد يرى في إسرائيل الضحية فقط، وإنما المجرم والجلاد الذي يمارس ساديّته ببرودة دم وتحت رعاية وحماية عواصم غربية شريكة ومتواطئة معه في جرائمه المقززة.

ما تفعله إسرائيل اليوم هو الإمعان في تحطيم كل الصور الأسطورية التي أسّست عليها تاريخها القصير، عندما تُنتج صورا تمحو تلك التي صنعت منها لنفسها دور الضحية التاريخية، فصور القتلى تحت الأنقاض، وأشلاء الأطفال المتناثرة بين الدمار، والجثامين الدامية الممدّدة أمام المستشفيات أو فقط المهملة على أرصفة الطرقات المدمّرة، هي أكثر بشاعة من الصور التي رسمتها الصهيونية في المخيلة الجمعية للناس عن محارق النازية التي شكّك في تهويلها مفكّرون غربيون من بينهم مفكّرون يهود. كما أن صور الدمار والخراب، الذي فاق ما تعرّضت له المدن الألمانية إبّان الحرب العالمية الثانية، تدفع إلى المقارنة بين جرائم النازية وجرائم الصهيونية. أما صور الجنود الصهاينة وهم يعبثون بالدراجات الهوائية لأطفال فلسطينيين استُشهدوا تحت القصف، يكسرون ألعابهم ويمزّقون اللباس الداخلي لنساء فلسطينيات أغلبهن ارتقيْن شهيدات، كلها تصرّفاتٌ تنمّ عن سلوكات مرضية سادية. وأخيرا، وليس آخرا، صور الإهانة لفلسطينيين عُراة مكتوفي الأيدي ومعصوبي الأعين التي تذكّر بما كان يفعله النازيون، عندما كانوا يقتادون اليهود إلى معسكرات إبادتهم الجماعية، كلها صور لن تؤدّي سوى إلى كراهية أكبر لإسرائيل، وكراهية أكبر للغرب الذي يدعمها، ويبرر جرائمها ويحميها، فهذه الصور ستبقى في أذهان أجيال قادمة من الفلسطينيين والعرب والمسلمين عامة، لن تصدّق مستقبلا كل خطابات الغرب الكاذبة عن السلام.

الخسارة الكبيرة التي لحقت بإسرائيل من خلال عدوانها الإجرامي اليومي المستمر على غزة والضفة الغربية، هي التي لحقت بـ “عقلية الضحية” التي كانت تصوّر الإسرائيلي والصهيوني ضحية لظلم تاريخي، البشرية كلها مسؤولة عنه. والخسارة الثانية التي لا تقلّ فداحة هي التي لحقت بمصداقية الغرب في العالم، وفي المنطقة العربية على الخصوص، نتيجة اصطفافه الأعمى وراء الدعاية الصهيونية. وعندما تتّضح الصورة مستقبلا بشكل أوضح، سوف تكتشف الدول الغربية وإعلامها أن ما لحق بمصداقيتهما أكبر بكثير من كل الدمار الذي شهدته غزّة!

تحقّق هذا كله بفضل “طوفان الأقصى” الذي نجح في 70 يوما في تحطيم أربعة أركان قامت عليها الدعاية الصهيونية 70 عاما، أماط اللثام عن الوجه البشع للإجرام الصهيوني، وفتح عيون العالم على الظلم المستمرّ الذي كان الفلسطينيون يتعرّضون له طيلة العقود الماضية، وكانت آلة الدعاية الصهيونية تحجُبه عن الرأي العام العالمي، وأظهر خطورة الحركة الصهيونية العالمية التي تتحكّم في قرارات الدول العظمى، وهذا ما سيؤدّي إلى تغذية حساسية الرأي العام الغربي تجاه تنامي نفوذ هذه الحركة داخل دولهم. وأخيرا، أثار النقاش في الغرب عن مفهوم الحركة الصهيونيّة ونشأتها وأهدافها، والأساطير التي تأسّست عليها، خصوصا فكرة الهولوكوست وكراهية اليهود. وقد بدأ الآن نقاش حقيقي وجدّي للفرز بين كراهية اليهود ومعاداة السامية، وبين انتقاد الصهيونية وجرائمها البشعة وانتقاد إسرائيل وسياسات حكومتها المتطرّفة والمجرمة. فالخلط بين هذه المفاهيم هو الذي ساهم طوال العقود الماضية في نجاح الصهيونية العالمية لترويج أطروحاتها العنصرية، وأكسبها الدعم الدولي الذي حظيت به في الغرب، وأدّى إلى تكميم كل الأفواه التي كانت تتجرّأ على انتقاد إيديولوجيتها الاستعمارية.

وأخيرا، إذا كان أحد أهداف إسرائيل الرئيسية، بل والاستراتيجية المعلنة من هذه الحرب، حماية أمنها، وتحت هذه المبرّر يدعمها الغرب ويبرّر جرائمها، فإنه لم ولن يتحقّق لها، لأنها لن تنجح أبدا في القضاء على إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني. وهذا ما أفرغ كل “انتصاراتها” السابقة من كل معنى، لأن النصر الإستراتيجي لم يتحقّق، وزاد العدوان الحالي من قناعة أنه لن يتحقّق، حتى لو بقيت إسرائيل سبعة عقود أخرى في المنطقة، لأنها هي التي تغذّي بعقيدتها المتطرّفة وإيديولوجيتها العنصرية كراهية محيطها لها. والنتيجة، في نهاية المطاف، ستكون هزيمتها السياسية والإستراتيجية، لأنها، بعيداً عن ضمان أمن شعبها، هي تجرّهم، من خلال جرائمها، إلى حربٍ لا نهاية لها في محيط تحتقر شعوبه وتهينها. فكيف يمكن أن نتصوّر أن إسرائيل ستكون، بعد هذه الحرب، قادرةً على العيش بشكل آمن وسط شعوبٍ باتت تكرهها أكثر من أي وقتٍ مضى؟ وكيف يمكن أن نتصوّر مستقبلا أن تكون إسرائيل دولة عادية، فيما أثبتت هذه الحرب أنها قاعدة متقدّمة للغرب في المنطقة، ومعقل لأبشع إيديولوجياته الاستعمارية التي تسعى إلى الهيمنة على دول المنطقة وشعوبها ومقدّراتها!

 

المحتوى ذو الصلة