كثيرًا ما يخلص القارئ للتاريخ المتأمل في أحداثه إلى النتيجة التي يختزلها قولنا: “ما أشبه الليلة بالبارحة!”، وهو قول يُحمَل على معنيين، معنى ظاهر يفيد أن التاريخ يعيد نفسه، ومعنى باطن يفيد بأن الإنسان عاجز عن الاعتبار مما حصل في الماضي.
يقف أمين معلوف في كتابه متاهة الضالين: ( Le Labyrinthe des égarés: L’Occident et ses adversaires ) عند لحظة مفصلية في تاريخ العلاقة بين الغرب وخصومه، ألا وهي اللحظة التي تُعرف عندنا في العالم العربي بالعدوان الثلاثي على مصر، وهو العدوان المقترف من طرف بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. والجدير بالذكر هنا هو أن هذا العدوان الذي وقع في أكتوبر من سنة 1956 قد تزامن مع اجتياح الجيش السوفياتي لهنغاريا وما خلفه هذا الاجتياح من ضحايا في صفوف المنتفضين ضد الحزب الشيوعي والنفوذ السوفياتي.
لم يقف أمين معلوف عند وجه الشبه بين تزامن الهجوم السوفياتي والعدوان الثلاثي من جهة، وبين تزامن حرب روسيا على أوكرانيا والعدوان الإسرائيلي الأميركي على غزة من جهة أخرى؛ ذلك أن الكتاب قد كُتب قبل “طوفان الأقصى”. لكنه وقف عند أمر مهم يمكننا أن نبني عليه حكمنا على ما يحدث اليوم من تجاذب بين الغرب وخصومه.
يوضح لنا أمين معلوف كيف أن أميركا سعت إلى إنهاء العدوان الثلاثي على مصر لمّا أدركت أن هذا العدوان يصرف الأنظار عن جرائم الاتحاد السوفياتي ويصبّ في تقويض صورة الغرب. فقد بلغ الأمر بأميركا أنها هدّدت بريطانيا بعدم منحها القرض الذي طلبته من صندوق النقد الدولي في حال لم تستجب لدعوة إيقاف القتال، وسحب قوتها العسكرية من مصر.
يذهب أمين معلوف إلى القول بأن هذا الحدث يكتسي، في نظر المؤرخين، دلالة كبيرة تؤشر على تحول في موازين القوى، حيث فقدت كل القوى الاستعمارية قدرتها على التدخل في النزاعات الإقليمية دون مباركة أميركا.
إن ما يحدث في غزة يجلي بشكل غير مسبوق افتقار الموقف الأميركي إلى الوضوح الأخلاقي وينسف ما يقرب من عشرين سنة من جهود الإدارة الأميركية لاستمالة العالم العربي والإسلامي عبر ما اصطلح عليه من داخل هذه الإدارة بالقوة الناعمة
حين نتأمل فيما حصل في منتصف القرن الماضي، وفيما يحصل أمام أعيننا اليوم، نُجابه بسؤال بديهي: ألا يصب تمادي أميركا في دعم حرب الإبادة المقترفة في غزة- وما تعد به هذه الحرب من توسيع لرقعة الصراع- في صرف أنظار العالم عما يجري بين روسيا وأوكرانيا وفي أماكن أخرى، وفي توسيخ وتلطيخ صورة أميركا، ليس في العالم العربي والإسلامي فحسب، بل عبر العالم كله؟
ويقودنا هذا إلى تساؤل آخر: ألا تجد أميركا قوة من داخلها تنهاها عن المضي في هذا الطريق، كما نهت هي بريطانيا عن مواصلة العدوان على مصر في سنة 1956؟
الراجح هو أن أميركا لم تُكلِّف نفسها أن تطرح هذا السؤال لسببين اثنين: فأما السبب الأول فيكمن في الشعور بأن العالم خرج من مرحلة الاستقطاب التي كان عليها خلال الحرب الباردة، حيث كان تلميع صورة أحد طرفي الصراع لا يكون إلا على حساب صورة الطرف الآخر. وأما السبب الثاني فيكمن في أن أميركا لا تجد من العالم العربي والإسلامي الرسمي معارضة سياسية قوية أو مناهضة عسكرية تذكر. لذلك فهي تكتفي بإصدار بيانات وتصريحات دبلوماسية تظنها كافية للإقناع بأن انخراطها في الحرب على غزة هو انخراط صائب لا يحيد عن الأخلاق والقانون.
والحاصل هو أن أميركا، وإن صحّ ما تراه من وجوه تُجلّي إحكام سيطرتها على العالم العربي والإسلامي مع غياب قطب إستراتيجي بديل، فلا يقل صحة أنها بانخراطها غير الأخلاقي وغير القانوني في الحرب على غزة، إنما تفتح باب صراعٍ جديدٍ، صراع ثقافي وقيمي وأخلاقي يجمعها بشعوب العالم. وعند التأمل نجد أن أول ضحايا هذا الصراع هو الشعب الفلسطيني الأعزل، أطفالًا ونساء وشيوخًا.
سيسجل التاريخ أن العدوان على غزة كان لحظة جوهرية في كشف المتناقضات التي يقوم عليها النظام الأميركي أمام أنظار شعوب العالم. من يتأمل في البيانات الصادرة عن المسؤولين الأميركيين بخصوص ما يحصل في غزة يجد فيها ما يدل على درجة كبيرة من الاستخفاف بالعقول والاستهانة بذكاء الشعوب.
نذكر من هذه البيانات، على سبيل التمثيل لا الحصر، ما يؤكد على أن أميركا حريصة على ألا تتوسع الحرب. فما معنى هذا الحرص وما فائدته؟ أو ما جدوى بيانات تدعو إلى إقرار هدنة مؤقتة لتبادل الأسرى، ثم استئناف الرجم من السماء بعدها؟ وما معنى أن تدعو إلى إيصال المواد الأساسية لأهل غزة، ولا تمانع إن كانت منازلهم تهدم فوق رؤوسهم؟
يمكننا القول إن ما يحدث في غزة يجلي بشكل غير مسبوق افتقار الموقف الأميركي إلى الوضوح الأخلاقي وينسف ما يقرب من عشرين سنة من جهود الإدارة الأميركية لاستمالة العالم العربي والإسلامي عبر ما اصطلح عليه من داخل هذه الإدارة بالقوة الناعمة. إن ما يقع في غزة يثبت أن الولايات المتحدة الأميركية أخطأت التقدير حين اعتقدت أنه بإمكانها القفز على القضية الفلسطينية لإرساء دعائم شراكة إستراتيجية مع المنطقة العربية، ضد خصومها الإستراتيجيين. والدليل على خطئها هذا هو اضطرارها إلى استعراض قوتها عبر بوارجها البحرية الناقلة للطائرات والرؤوس النووية.
إن لتحرك أميركا في المنطقة العربية اليوم دلالات رمزية كبيرة. لقد فقدت قدرتها على الإقناع عن بعد، دون اللجوء إلى القوة. ذلك أن ما يقع في غزة ساهم في تفجير البلاغة الإمبريالية التي ظلت وسيلة الولايات المتحدة الأميركية للقفز على المتناقضات. قد تنجح في فرض نظرتها للأشياء بالقوة، لكنها لن تنجح في حروب المعنى والقيم التي صارت تجمعها أكثر من أي وقت مضى بالثقافات الأخرى، خصوصًا الثقافة العربية والإسلامية.
في ثمانينيات القرن الماضي كتب “نورمان كورْوين” كتابه الشهير عن تتفيه أميركا وانتصار الرداءة ( Trivializing America: The Triumph of Mediocrity ).
في هذا الكتاب يحيل “كوروين” على ما قاله “توماس جيفيرسون” قبل مئتي سنة من كلام مفاده أن “العالم مدين للصحافة، وللصحافة وحدها، بجميع أنواع الانتصارات التي تحققت بفضل العقل والإنسانية”. ويأسف بعد ذلك “كوروين” لما تشهده أميركا اليوم من مسلسل التتفيه الذي تقف من ورائه مؤسسات الإعلام، هذا المسلسل الذي أفضى إلى تآكل صريح للقيم.
نجد في كتاب “كوروين”، وكتب أخرى عديدة، إشارات بليغة تؤكد على أن النظام الديمقراطي في الغرب عمومًا وأميركا بوجه خاص يقوم أساسًا على الاستخفاف بالعقول، هذا الاستخفاف الذي يقوم بدوره على التتفيه الثقافي الذي تمارسه وسائل الإعلام.
من مظاهر هذا الاستخفاف بالعقول- وهي مظاهر كثيرة لا يستوعبها مقال أو كتاب- تنصيب مملكة للنجوم ( Stardom ) التي أصبح من أدوارها صرف العقول عن حقيقة الخبر، إلى رأي النجم-الملك ( Star ) في هذا الخبر. فقد صارت الحقيقة ما يتفوه به هذا النجم أو ذاك، عوض أن تكون حقيقة تحتكم إلى ضوابط من الواقع.
حين نتأمل فيما يحدث اليوم، نجد أن أميركا تراهن على التفاهة التي تحملها وسائل الإعلام في الوطن العربي والإسلامي كي تقفز على تناقضاتها العقلية وتخفي غموض موقفها الأخلاقي. فالحرب التي تجمعها اليوم مع العالم الخارجي، والعالم العربي الإسلامي بوجه خاص، هي حرب حول المعنى في المقام الأول. صحيح أن التحكم في وسائل التواصل الاجتماعي يرجح الكفة لصالحها؛ غير أنه صحيح كذلك أن هذه الوسائل أصبحت تعري تناقضات الديمقراطية الأميركية بشكل غير مسبوق، فتصنع وعيًا جديدًا، وعيًا يتوق إلى منظومة قيمية وأخلاقية وحضارية جديدة.
لا بأس أن نقف في هذا السياق عند حدث بسيط في ظاهره، عميق في دلالاته، على أمل أن نفصل الكلام لاحقًا في معنى “حرب المعنى”. فقد تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للرئيس الأميركي بايدن وهو يلقي كلمة داخل كنيسة، ليفاجأ بمجموعة من المعارضين لاستمرار العدوان الإسرائيلي على غزة وهم يهتفون في وجهه بأن يتوقف عن دعم هذا العدوان. وبعد أن تم إخراجهم، أخذ الباقون في الكنيسة يهتفون: “أربع سنوات أخرى” ( Four more years! Four more years! ).
يكشف لنا هذا المقطع، وأضرابه الكثيرة، كيف تبلغ الديمقراطية الأميركية المنتهى في التناقض والهشاشة وانعدام المعنى. كان يكفي الساهرين على أمن الكنيسة أن يخرجوا المشاغبين ليتم الرئيس كلمته، لكن أن يهتف الباقون مطالبين بأربع سنوات أخرى من حكم الرئيس، فهذا مؤشر على وجود مباركة دينية كنسية لما يحصل من تقتيل وتهجير وإبادة للإنسان الفلسطيني. كما هو مؤشر على انطماس الخطوط الفاصلة بين الفضاء الديني والفضاء السياسي في الديمقراطية الأميركية بشكل يعطي للعدوان على غزة نكهة عقدية.
نخلص من هذا الحديث إلى التأكيد على أن الموقف الأميركي من العدوان على غزة يميط اللثام عن تناقضات الديمقراطية الأميركية التي يعمل الإعلام على إخفائها اعتمادًا على سياسة تتفيه ممنهجة، سياسة تقوم على تعليب المعنى وبيعه، بعيدًا عن مقتضيات الأخلاق والقانون والإنسانية. ويرجح عندنا أن خطورة هذا الموقف تكمن في كونه لا ينضبط بضوابط المصلحة الجيو-ستراتيجية كما يصرح بذلك الدبلوماسيون الأميركيون، بل يخضع لإملاءات عقدية راسخة.
وعليه يحق لنا أن نسأل: “إلى أين نحن ذاهبون؟”. إن ملامح التماهي بين التطرف الديني الإسرائيلي وبين التطرف الديني الأميركي تعد بإعطاء الصراع العربي- الإسرائيلي صبغة دينية عقدية صرفة، وهذا ما يسد أفق التفكير من أجل استشراف حل للقضية الفلسطينية، ويعد بإدخال المنطقة كلها في حروب عقدية مدمرة.