فتور ونفور.. خطورة اعتياد الحرب على غزة

[[{“value”:”

لا يمكن لإنسان أن يُبقي مشاعرَه ملتهبة طوال الوقت حيال ما يجري له أو حوله، ولا يقدر على أن يجعل الشغف يقظًا، والاهتمام قائمًا، والعناية والرعاية مستمرّتَين، دون أن يصيبه إزاءها شيء من الملل أو الفتور، وربما النفور حين تُثقل على نفسه، وتجثُم على صدره، ويراها مسببة لألم لا يطيقه.

هذه الحالة النفسيّة والعصبية تنطبق على الأحداث الكبرى التي يمرُّ بها المرء أو تمرّ به، ومنها بالطبع الحروب، التي تخطف الأبصار، وتشغل الأذهان، حين تندلع، وتصبح للناس حديث الصباح والمساء، ثم لا تلبث أن تفقد جاذبيتها شيئًا فشيئًا، حتى تصير من قبيل المعطيات أو العادات اليومية الباردة.

ليست الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة استثناء من هذه القاعدة، التي سبق أن رأيناها، في الأمس القريب، في الحرب الأهليّة التي تدور رحاها في السودان بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، والحرب الروسية ـ الأوكرانية، التي انجذب إليها العالم كله في أيامها الأولى، وتصدّرت عناوين وكالات الأنباء والصحف وقنوات التلفزة الإخبارية، ثم توارت إلى الخلف، وسبقتها أخبار كثيرة، بما فيها المنوّعات والطرائف واللطائف.

مشاعر متباينة
يحدث هذا بالطبع لمن يتابعون الحروب عن بُعد، وهم منذ اللحظة الأولى ليسوا موحدي المشاعر حيالها، والفهم لها، والانفعال بها. أما الذين يكتوون بنار الحرب، حيث يسمعون قصف الطائرات والمدافع وزمجرة الدبابات وصوت رصاص البنادق والرشاشات، ثم يحملون الجرحى إلى المشافي، والقتلى إلى المقابر، فلا يمكن لاهتمامهم أن يبرد أو يشيخ، فكل لحظة تولد حكاية أليمة من قلب النار والدمار.

وحتى اعتياد الناس الذين يقعون في قلب المعركة فصولَها الدامية، يكون من قبيل الجَلَد وقوة التحمل والصمود والمعاندة الإيجابية، إذ لا يمكن لجيش نظامي أن يمضي في القتال وخلفه شعب متضجّر، ويزيد الاحتياج للمقاومة التي تشنّ حرب عصابات، إذ هي في حاجة ماسّة إلى حاضنة شعبية صابرة، تشد من أزرها، وتمدها بالكثير من أسباب القدرة على مواصلة القتال.

أما من يقعون خارج المعركة، فيصيبهم شيء من الفتور، وربما التبلّد، بمرور أيام تتكرر فيها أخبار متشابهة أو متطابقة، فإن وقع أثناء جريان الحرب حدث مختلف يعاود الناس الانجذاب إلى المعركة، ثم يرجعون إلى ما كانوا عليه، حتى يقع حدث آخر على هذه الشاكلة.

هذه القاعدة تنطبق على ما يجري في غزة، رغم أنه “إبادة جماعية” تتأكد مفردات جريمتها كل يوم. فلم تعد الحناجر تهتف ضد الحرب في الشوارع، كما كانت في الأسابيع الأولى، ولم يعد انشغال الناس على وسائل التواصل الاجتماعي مثلما كان، وقفزت أخبار أخرى إلى كثير من الشاشات التلفزيونية لتشارك غزة الاهتمام والعرض على الجمهور، ولم يعد الناس يأتون كثيرًا على ذكرها في الثرثرة اليومية العادية في البيوت والمقاهي ومكاتب العمل.

حروب خاطفة
وفضلًا عن العامل النفسي الأصيل الذي يمنع الإنسان من الانغماس التام في حدث ما، يتابعه ليل نهار ولا ينفك عنه، فهناك عوامل عدة تخصّ الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة، هذه المرة أكثر من أي مرات سابقة، لاختلاف درجة الصراع من حيث الاتساع والعمق والمدى الزمني.

فهناك اعتياد على الحروب الخاطفة أو القصيرة بين العرب وإسرائيل، كما جرى في الجولات السابقة كافة. وكانت أطولها الحرب على غزة في 2014، وعلى لبنان في صيف 2006. أما هذه المرة فالحرب اقتربت من شهرها الرابع، في ظل حديث إسرائيلي عن أنها لن تتوقف حتى تحقق تل أبيب أهدافها، وحديث مضاد للمقاومة بأنها مستعدة أن تقاوم إلى النهاية، دون أن تضعف قدرتها إلى حد التراجع، أو تفتر همتها إلى حد الاستسلام، أو حتى تقبل الخسارة.

هذا الإعلان وما يضاده جعل الناس يدركون أنهم ربما يكونون حيال حرب تطول، وعليهم أن يجهزوا أنفسهم لهذا الاحتمال الذي يتم تغليبه، فيوزعون الاهتمام والانفعال على طول الأيام، أو هكذا تدرك أمخاخهم بقدرتها الطبيعية التي برهن عليها العلم، فتوزع الانشغال كيفما شاءت، حافظة لصاحبها قدرةً على التحمل، أو أداء ما عليه من واجب، إن كان البقاء على قيد الاهتمام بما يحدث لأهل غزة من قبيل الواجب، أو هو أقله.

وهناك من لم يعد يطيق تباريح الألم التي تنتابه حين يرى مصابين يتعذر إنقاذ حياتهم بعد تدمير أغلب المستشفيات أو منع الدواء عنها، ويرى جثث الناس على قارعات الطرق ونواصي الشوارع، ويرى البيوت مدمرة، وقد صارت أطلالًا وأكوامًا خربة، أو يرى المتزاحمين حول موزعي طعام لا يكفي الجميع، على شفا مجاعة محتملة. مثل هذا الشخص قد يصيبه اكتئاب بسبب ما يسمع ويرى فيُنصح بالابتعاد عن متابعة الحرب، حفاظًا على صحته النفسية.

محاولات يائسة
وهناك من قام بتثبيت المشهد في وقت كانت فيه المقاومة رابحة، وتعد بأنها ستنتصر في النهاية، ولا يريد لما ثبَّته أن يهتز أو يضطرب، ولذا يضرب صفحًا عن متابعة لحوحة أو فضولية بوسعها أن تفقده هذا الشعور أو ذلك الإدراك الذي انعقد لديه، وأغلق الباب أمام كل شيء يعيده إلى التساؤل والقلق والحيرة.

في ركاب هذا يوجد من اعتبر أن نتيجة الحرب قد حُسمت في يومها الأول، وأن كل ما يجري على الأرض الآن تحصيل حاصل، وهو لا يزيد عن محاولة يائسة من قبل تل أبيب للانتقام من المقاومة جراء ما فعلته بالجيش الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وأن هذا لن يؤدي مهما كان مستوى التوحش في رد الفعل إلى تغيير المعادلة الحقيقية على الأرض، والتي يقاس فيها النصر بقدرة أي من الأطراف المتحاربة على فرض إرادته السياسية في النهاية.

هذه الحالة لا تخص مناصري القضية الفلسطينية ومقاومتها فحسب، بل تنسحب على من يؤيدون إسرائيل أيضًا، لاسيما في الغرب. فالحماس للجيش الإسرائيلي لم يعد على حاله، والتعويل عليه تراجع، على المستوى الرسمي الغربي، حتى سمعنا ألسنة تنتقد استمرار الحرب، ولم نعد نسمع أخرى كانت لا تكفّ عن التعليق في بدايتها.

نقد وتقريع
لكنّ هناك فرقًا كبيرًا في الحالتين، فإسرائيل تفهم أن أي فتور يصيب الناس حيال الحرب يكون في صالحها، إذ إن أكثر ما أزعجها هو هذا الاهتمام الكبير، الذي أرسل إليها نقدًا وتقريعًا وتوبيخًا، حمله متظاهرون ضاقت بهم شوارع مدن أوروبية وأميركية عدة، وهذه العيون التي ترقب ما يرتكبونه من أفعال بشعة، ولذا فإنّ الفتور أو الانصراف عن المتابعة أو اللامبالاة يفيد تل أبيب في ارتكاب ما تريد في الظلام.

أما المقاومة الفلسطينية فهي تريد أن يظل هذا الاهتمام قائمًا، فهو ظهير ونصير لها، يعطيها مددًا هي في أمسّ الحاجة إليه، وفي الوقت نفسه يضغط على أعصاب خصمها، الذي يدرك أن التحول في الرأي العام العالمي ليكون ضده هو خسارة كبيرة له، لم يعهدها، بهذا الزخم، منذ إنشاء إسرائيل عام 1948.

وإذا استثنينا في كل هذا المتبلدين أو اللامبالين فإن بقاء الانشغال والانفعال بالعدوان على غزة قائمًا هو مفيد في كل الأحوال للقضية الفلسطينية، لاسيما أن أحداثها ليست من قبيل المواجهات أو الحروب العابرة، إنما حلقات في سلسلة طويلة من نضال، يجب ألا يدع لمن يقتنع به ويؤيده أي فرصة للانفكاك منه، والتخلي عنه، حتى لا يستيقظ ذات يوم على فاجعة.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة