كي لا تكون الضحية التالية

[[{“value”:”

حين “يتضامن” غربي، أميركي أو أوروبي، أو حتى من أفريقيا أو آسيا، مع ضحايا الهمجية الصهيونية في فلسطين أو لبنان، فهذا يعني أن هذا الشخص يشعر أن هناك كسراً للقواعد الأخلاقية التي تعلّمها أو اكتسبها، فوفقها من حقّ الإنسان أن يعيش بكرامة، وقبل هذا أن يعيش أصلاً، لا أن يُقتل بقصف بمسيّرة أو قذيفة طائرة أو سحقاً تحت سقف منزله، أو أن يتحوّل إلى دمية بين يدي سجّان سادي يذيقه ألواناً من العذاب فقط لأنه وقع أسيراً بين يديه، ولا يملك القدرة على الدفاع عن نفسه.

تلك المشاعر التي تنتاب المتضامن إنسانية بحتة، غير ممزوجة بما أشعر به أنا العربي اللاجئ من يافا للمرّة الثانية، أو الثالثة حتى قبل أن أولد، فقد لجأت عائلتي من قرية جميلة وادعة تبعد قليلاً عن يافا قبل أن أرى الحياة (أصبحت أراضيها في ما بعد أغلى بقعة في فلسطين المحتلة، فهي حالياً جزء مما يسمّيها العدو تل أبيب الكبرى، أو مركز الكيان!).

وشاء القدر، أو الاحتلال على وجه التعيين، ألا أولد في بيتنا الوادع الجميل القائم بين بحر ونهر، بل في “خيمة” أقيمت على عجل، لإيواء من لجأوا فراراً من القتل، على بعد نحو 60 كيلومترا من مسقط رأس والدي، في بيتنا الأول، وهي المسافة التي تفصل بين يافا ومخيم طولكرم، ويبعدان بعضهما عن بعض أقل من ساعة بالسيارة، لكنها مسافة ضوئية، كأنها تفصل بين جرمين سماويين، فبين “تل أبيب” والمخيّم الذي تحول إلى ساحة قتال اليوم أكثر من نصف قرن من الأحداث.

مفهومٌ أن يتضامن ذلك “الغريب” مع غريب آخر وقع ضحية احتلال، لأسباب إنسانية بحتة، لكن لـ”تضامني” مع الحدث ذاته كيمياء أخرى معقدة كثيراً، ليس فقط لجهة أن تلك الضحية التي أتضامن معها عاشت تقريباً بعضاً من المراحل التي عشتها فقط، لا، بل لأنني ذُقت بعضاً مما ذاقت، والأهم والأخطر أنني لا أملك أي ضماناتٍ ألا أكون الضحية الثانية، وهنا بيت القصيد.

وبحسبة بسيطة تأخذ بالحسبان ما يقذِف به في وجوهنا غلاة الصهاينة صباح مساء، فلا يوجد عربي واحد بين النيل والفرات في منأىً من أن يكون الضحية القادمة، فتلك الأرض التي يسكنها أهلها منذ قرون طويلة باتت حلم الصهاينة من أبناء “أبراهام” لإقامة حلمٍ مستندٍ إلى نبوءة أو “وعد!” توراتي من إلههم “يهوه” بأن تكون “وطنهم”. ومع ازدياد “خضوع” أنظمة الحكم في تلك البلاد وما يبدو تساهلاً مع الاحتلال وتقبّلاً له بوصفه واقعاً لا سبيل لتغييره، زادت شهيّة التوسّع وتحقيق وعد يهوه، فأنت حين ترى من يفترض أنه خصمك وعدوك يعاملك وكأنك صاحب البيت لا مغتصبه بكل ودّ وترحاب، ستبدأ على الفور التفكير في كيفية طرده من البيت أو حتى قتله ورميه خارجاً، خصوصاً حين يكون الطرف الآخر مدجّجاً بثقافة سادية تنظر إلى الآخرين بوصفهم عبيداً له، لا شركاء له على هذه الكرة الأرضية. وفي المحصلة، ليس عليك وحدك أن تشعر بأنك ربما تكون الضحية التالية، بل كل الذين يعيشون على تلك الأرض “الموعودة” لغيرك. من هنا، تتحوّل مشاعر التضامن الإنساني إلى وقود لاستفزاز غريزة الرغبة في البقاء والدفاع عن الذات! أما الذين “يعجزون” عن الوصول إلى تلك المرحلة من المشاعر، ويُهيأ لهم أن ما يجري في مخيم جباليا في غزّة أو مخيم طولكرم في الضفة الفلسطينية المحتلة أو بلدة الخيام في لبنان لا يعنيهم كثيراً، أو أنه بعيد بما يكفي كي لا يكون مصيرهم كمصير من عاشوا في تلك الأماكن، فهؤلاء يعيشون في غيبوبةٍ إراديةٍ لا شأن لها بالواقع الكارثي المحيط بهم. هؤلاء ضحايا وهم بثّته في وعيهم ولاوعيهم وسائل دعاية تنشرها أنظمتهم التي تعرف أن ثمن بقائها ديمومة إبقاء “القطيع” نائماً في تلك الغيبوبة، ساهياً لاهياً عما يُعدّ له، مما ذاقه إخوتهم في الأرض التي سيطرت عليها جماعة وعد يهوه!

بهذا المعنى الذي استغرق شرحه الفقرات أعلاه، يصبح “التضامن” ليس واجباً فقط، بل فرض عيْن على كل من يقيم على تلك الأرض “الموعودة”، وهو في الحقيقة ليس تضامناً مع آخر، بل وقوفٌ مع الذات ودفاع عنها، إنه يشبه أن تهبّ لإطفاء الحريق عند جارك كي لا تمتدّ النيران إلى بيتك.

لقد أنفقت جماعة وعد يهوه مالاً كثيراً، كي تبث طيفاً هائلاً من الأوهام والأكاذيب والمفاهيم الخاطئة لتبقي من هم خارج دائرة “الصراع” المباشر للعيش في حالة رخوة من الرخاء والاطمئنان الكاذب، لتحييدهم وإبعادهم عن نصرة إخوتهم، بزعم أنهم خارج دائرة الخطر، مع أنهم في صلب هذه الدائرة، والدور قادم عليهم كي يكونوا الضحية التالية، إن لم يكن اليوم فغداً، وساعدتها في هذا الجهد “الجبار” آلة إعلامية لأنظمةٍ تستمدّ من هذا الوهم نسغ بقائها، وديمومة “أمنها” المستمدّ في الأصل من أمن جماعة الوعد المزعوم، وتلك أكبر عملية نصبٍ وتزييف مرّت بها بلادنا في العصر الحديث.

باختصار.. اليوم فلسطين ولبنان، وغدا الأردن ومصر وسورية، وبعد غد مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة، وبعده أو معه، المغرب وليبيا وتونس وعُمان والجزيرة العربية كلها. الدفاع عن الأقصى دفاع عن مكّة والمدينة، ومن يرضى بفناء غزّة وشجّع العدو وأعانه على ارتكاب جريمته هناك وقّع له على صكّ تنازل، ليس عن كرامته وشرفه وعرضه فقط، بل عن وجوده هو فيزيائياً، لأننا أمام عدو لا يقبل شركاء، بل عبيداً أو من دون ذلك.

هل هناك أي ضمانةٍ من النظام العربي الرسمي أن لا نكون نحن العرب الذين نقيم خارج دائرة النار الضحية القادمة للوحش الصهيوني الهائج؟ ماذا أعدّ هذا النظام لحمايتنا؟ هل بنى لنا خنادق؟ هل سلحنا؟ بل هل أطعمنا من جوع وآمننا من خوف؟ أيّ شرعيةٍ بقيت لهذا النظام كي ندين له بالولاء؟

“}]] 

المحتوى ذو الصلة