اختراق السياج .. كيف تطورت المعركة بين النكبة والطوفان؟

[[{“value”:”

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

مع إشراقة شمس يوم السابع من أكتوبر 2023 يستيقظ العالم على حدثٍ غير مسبوق في الصراع الأطول عمرًا والأشد ضراوة خلال قرن من الزمان؛ إذ إن طرفي الحدث هما: كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة حماس-، وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وأما طبيعة الحدث فهي اقتحام الكتائب مستوطنات غلاف غزة والقضاء على فرقة غزة الإسرائيلية وأسر ما يزيد عن 200 إسرائيلي.

تمثلت دهشة العالم من الحدث في كونه يمثل الاختراق الأكبر من قبل الفلسطينيين للسياج الفاصل بينهم وبين الاحتلال، ونقل المعركة إلى قلب الكيان الإسرائيلي، بهجوم واسع وخسائر فادحة في صفوفه، وهو ما أثار الفزع من أن يتحول هذا الهجوم لتهديدٍ لهذا الكيان الذي يعد شرطيًّا للغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.

اجتياح السياج الفاصل بين قطاع غزة ومستوطنات غلاف غزة، كان حصادًا لغرسٍ استمر لعقود من الزمن، شهدت ملاحم شعبية وعمليات فدائية تمهيدًا لتلك اللحظة اللي أشعرت كيان الاحتلال أنه على وشك بداية النهاية، ولم يكن طوفان الأقصى إلا حلقة هامة في سلسلة طويلة من السعي للوصول إلى المرحلة التي يبدأ فيها الزحف المضاد ضد كيان الاحتلال، تمهيدًا للتحرير الكامل لأرض فلسطين، ولهذه السلسلة تاريخ ومحطات هامة وأحداث وتضحيات حفرها الشعب الفلسطيني بدمه في جدارية صراع الحضارات.

نكبة واستيطان

بتاريخ النكبة الفلسطينية عام 1948، قُسّم قضاء غزة إلى منطقتين، إحداهما قطاع غزة، تحت حكم الإدارة المصرية، والأخرى غلاف غزة، الذي ضم لاحقًا 50 مستوطنة، ويقطنها قرابة 40 ألف مستوطن، كما تضم عددًا من المواقع والقواعد العسكرية التابعة لفرقة غزة؛ فرقة الجيش الإسرائيلي المسؤولة عن قطاع غزة والتي يوكل إليها مهام اجتياحه بين الحين والآخر.

عقب هذا التقسيم بات قطاع غزة نقطة ارتكاز تنطلق منها العمليات الفدائية تجاه الاحتلال، كان من أهمها ما قام به الضابط المصري الشهيد مصطفى حافظ من قيادة الكتيبة “141 فدائيون” -وفيها المئات من أبناء القطاع- لتنفيذ عدد من العمليات النوعية داخل الأراضي المحتلة؛ والتي امتدت عامًا كاملا من صيف عام 1955 إلى صيف عام 1956، ووصل الفدائيون خلالها إلى عمق 18 كلم داخل “غلاف غزة”.

احتلال ومقاومة

ومنذ نكسة عام 1967-التي احتلت فيها إسرائيل كامل قطاع غزة- وحتى الانسحاب الجزئي الإسرائيلي من القطاع عقب اتفاقية أوسلو عام 1994، لم يهدأ الفلسطينيون من مقاومة الاحتلال ومستوطنيه داخل القطاع، لا سيما فترة السبعينيات ثم الانتفاضة الأولى عام 1987.

في الأعوام اللاحقة وحتى عام 2000، تمكنت الفصائل الفلسطينية من تنفيذ عدة عمليات في مدن الاحتلال انطلاقًا من قطاع غزة، كان أكبرها عملية “بيت ليد” الاستشهادية المزدوجة، وعملية “الثأر المقدس” التي قادها الأسير حسن سلامة.

الأسير حسن سلامة

تحرير فإعداد

وفي عام 2000 اندلعت انتفاضة الأقصى لتستمر قرابة 5 سنوات، شدّد الاحتلال خلالها القيود المفروضة على قطاع غزة، وأغلق المعابر المؤدية إلى الضفة الغربية وأراضي عام 1948، فصعّدت المقاومة من عملياتها ضد مستوطنات القطاع، بعد أن ضمت عددًا أكبر من المقاتلين وبدأت في استخدام الأنفاق الأرضية والتسلل عبر البحر، ما أجبر الاحتلال على الانسحاب من غزة عام 2005، بعدما تكبد في الانتفاضة -بحسب اعترافاته- 105 قتلى من جنوده ومستوطنيه.

أسهم الانسحاب الإسرائيلي في تطوير المقاومة عددًا وإمكانات، وذلك لما راكمته الخبرات الميدانية طيلة مراحل الالتحام المباشر مع الاحتلال منذ النكسة، بالإضافة إلى خلوّ القطاع من الاحتلال ومستوطنيه، وذلك ما حدا بقيادة المقاومة أن يطمحوا إلى الانطلاق بالعمليات الفدائية إلى مستوطنات الغلاف.

الوهم المتبدد

فور تحرير غزة بدأ العمل مباشرة لإعداد المعركة إلى ما خلف خطوط العدو، ليُفاجأ الاحتلال فجر يوم الـ 25 من يونيو حزيران 2006 باقتحام عناصر المقاومة معبر كرم أبو سالم متسللين عبر نفق ممتد من داخل القطاع، في صورة ثلاث مجموعات تضم مقاتلين من “كتائب الشهيد عز الدين القسام” و”ألوية الناصر صلاح الدين” و”جيش الإسلام”: لتقوم المجموعة الأولى بتفجير دبابة، والثانية بتدمير ناقلة الجند، والثالثة بتدير برج المراقبة جزئيًّا، ليسفر هذا الهجوم عن قتل جنديين على الأقل، وأسر ثالث حيّا من قلب دبابته.

مثّلت هذه العملية -والتي أطلقت عليها المقاومة اسم “الوهم المتبدد”- بداية لعهد كسر السياج الفاصل، واستهداف “غلاف غزة”، ورسمت من خلالها المقاومة صورة مصغرة ليوم الطوفان القادم بعد أكثر من 17 عامًا.

بعد عامين من هذه العملية وفي يوم 17 أبريل/نيسان 2008، اقتحمت كتائب القسام بعربات عسكرية تشبه آليات جيش الاحتلال، موقع كرم أبو سالم العسكري، مجددًا، وانتهت العملية باستشهاد 3 من المنفذين وإصابة 13 جنديًا إسرائيليًّا، فيما عرف بعملية “نذير الانفجار”.

عدوان يعقبه تطوير

في نهاية العام نفسه حتى بدايات العام 2009 شن الاحتلال الإسرائيلي حربه الأولى على قطاع غزة، لتدخل بعدها فصائل المقاومة فيما يشبه الثورة العسكرية والتنظيمية، فبدأت العمل بشكل أكثر مأسسة على تطوير قدراتها العسكرية، في مجالات الصواريخ ومضادات الدروع والطائرات المسيّرة، كما شهدت كتائب القسام إعادة هيكلة واسعة لوحداتها القتالية، وانزياحًا نحو التخصصية، عبر تشكيل وحدات النخبة والكوماندوز البحري، كوحدات قتالية خاصة، لتنفيذ مهام الاقتحام والسيطرة.

وكان ذلك تمهيدًا لضرب الاحتلال خلف الخطوط في أي مواجهة قادمة، إذ كانت تدريبات الفصائل تعكس ترجمة لهذه المخططات، عبر مناورات اقتحام نماذج للمواقع العسكرية والمستوطنات كما في “مناورات الركن الشديد”.

العصف المأكول

كما شكلت عملية الوهم المتبدد بداية لمرحلة الهجوم على السياج الفاصل بين قطاع غزة وغلاف المستوطنات الإسرائيلية، فإن عملية العصف المأكول التي نفذتها المقاومة في يوليو/تموز 2014، شكّلت أهم مراحل المواجهات البرية مع جيش الاحتلال، وكانت تعبيرًا واضحًا عما قامت به المقاومة من جهود الإعداد والتطوير القتالي واللوجستي والعملياتي، حتى إنها فاجأت العدو بأن الهجوم عليه داخل الأراضي المحتلة كان برًا وبحرًا، وكسر مفهوم السياج الفاصل بالنار في عدة مواقع عسكرية.

بدأت المعركة بقيام كتائب القسام المعركة بعملية لقوات الكوماندوز البحري على شاطئ قاعدة زيكيم البحرية شمال قطاع غزة، ودارت خلالها مواجهات شرسة بين أربعة من مقاتلي القسام وجيش الاحتلال الذي استدعى دباباته ومروحياته وزوارقه الحربية لملاحقة المقاتلين والاشتباك معهم، على بعد أمتار من ساحل البحر خلال انسحابهم بعد إتمام العملية.

إلى جانب العملية البحرية الأولى، نفذت كتائب القسام أربع عمليات خلف خطوط العدو في المواقع العسكرية المحاذية لقطاع غزة، وهي مواقع “صوفا” في رفح، وموقع “أبو مطيبق” شرق المحافظة الوسطى، وعملية “ناحل عوز” شرق الشجاعية، وعملية “موقع 16” قرب معبر بيت حانون (إيريز) شمال بيت حانون. وقد أوقعت هذه العمليات 23 قتيلا وفق بيانات القسام، فكانت بمثابة الضربة العسكرية البرية الأعنف في المواقع العسكرية المتقدمة لجيش الاحتلال في “غلاف غزة”.

أضافت معركة “العصف المأكول” إلى المكتسبات الفلسطينية ما يمكن وصفه بالبداية العملياتية والميدانية لعملية “طوفان الأقصى”، بعدما حققت عمليًا مشاهد الاختراق والهجوم والسيطرة والانسحاب داخل المواقع العسكرية الإسرائيلية، وهو ما فتح الباب أمام التفكير في خطط الاقتحام الموسع للمواقع العسكرية الإسرائيلية ومستوطنات الغلاف مستقبلا.

الصدمة الإسرائيلية من العملية القسامية التي أكدت اعتماد المقاومة فكرة الأنفاق استراتيجية أساسية في المواجهة مع الاحتلال، ما دفع الكيان إلى تدشين مشروع “الجدار الذكي” على طول الحدود الفاصلة مع قطاع غزة، وبعمق يصل إلى 25 متراً تحت الأرض، وقد استغرق بناؤه نحو 4 سنوات، بتكلفة تجاوزت المليار دولار، بالإضافة لبناء العائق البحري في أقصى شمال قطاع غزة، وتكثيف عمليات البحث عن الأنفاق التي تتجاوز السياج نحو غلاف غزة، والسعي لتدميرها. وقد حقق جيش الاحتلال نجاحات ميدانية في كشف عدد من هذه الأنفاق، إلا أن مالم يحسب له الاحتلال حسابًا أنه بينما كان يصبّ جُل اهتمامه للقضاء على الأنفاق، كانت المقاومة تبني خططها من فوق الأرض من أجل “اجتياح الغلاف” في المستقبل القريب.

مسيرات العودة

لا تزال المساعي الفلسطينية لاجتياح السياج الفاصل قائمة ومتصاعدة، حتى إن المعركة لم تعد تنحصر في حيز المقاومة التي تنفذ عمليات بين الفينة والأخرى، بل تعدتها إلى النسيج الأوسع في عموم المواطنين في قطاع غزة، لتنطلق في يوم الجمعة 30 مارس/آذار 2018، الموافق لذكرى يوم الأرض، على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة مسيرات العودة الكبرى، التي شارك فيها عشرات آلاف الفلسطينيين، تأكيدًا على حق العودة إلى أراضيهم المحتلة عام 1948.

خلف أهدافها المعلنة بكسر الحصار، شكلت مسيرات العودة فرصة لآلاف الفلسطينيين للوصول إلى السياج الفاصل مع الأرض المحتلة، لأول مرة في حياة الكثيرين منهم، والاشتباك مع جنود الاحتلال وجهًا لوجه، انطلاقًا من المخيمات الحدودية الخمسة التي أقيمت في محافظات قطاع غزة، وتطورت إلى اشتباكات أسبوعية مع جيش الاحتلال، وتشكلت وحدات ميدانية من متطوعين شبان، حملت تسميات وحدات “الكوشوك”، و”قص السلك”، و”السواتر”، و”الأطباق والبلالين الحارقة”، و”الإرباك الليلي” وغيرها، وذلك ضمن الأدوات الخشنة للاشتباك مع الاحتلال.

شكلت مسيرات العودة فرصة لكوادر المقاومة من أجل الوصول إلى نقطة الصفر مع الأراضي المحتلة، والاحتكاك بجيش الاحتلال عن قرب، وفحص جهوزيته ومواقع انتشاره، وتجريب العبوات الناسفة ضد السياج الحدودي وآليات الاحتلال ميدانيًا ضمن المجموعات التي عرفت محليًا باسم “الشباب الثائر”. وقد شهدت آخر فعاليات المسيرات ارتقاء 5 شهداء نتيجة انفجار عبوة ناسفة فيهم، أثناء محاولتهم زرعها على السياج الفاصل.

ما كان محاولات خاطفة في الماضي حفّز المقاومة لتحويل الأمر إلى معركة خارقة للعادة، فأعدّت وخططت ليومٍ أعاد لواجهة العالم القضية الفلسطينية من جديد وبقوة؛ حيث يوم السابع من أكتوبر عام 2023، والذي اندلع فيه طوفان الأقصى ليجرف في طريقه وهم الجيش الذي لا يقهر، وخرافة الردع الدائم لكيان الاحتلال، ولكن الطوفان في سبيل ذلك جرف معه السياج الفاصل واقتحم الممنوع وأعمل في العدو قتلا وتنكيلا وأسرًا عبر جنود مقاومين برًّا وبحرًا وجوًّا، الأمر الذي أفجع المحتل وأسقط في أعين العالم أساطيره.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة